ثلاثة عناوين تشغل بال الكثيرين في عالمنا العربي، تتداخل مع بعضها وتمثل أسبابا للتوتر السياسي في المنطقة وفي العالم.
أولها قضية الحريات العامة في عالم مترامي الأطراف ما يزال يبحث عن أطر سياسية حديثة توفر للشعوب حقوقها في الحريات العامة والشراكة السياسية. وثانيها قضية التطبيع التي تفرض نفسها على المنطقة نظرا لارتباطها بقضايا الحرية والحق والعدل والنضال. وثالثها عنوان الإسلام السياسي الذي يدّعي رواده أنه يشمل قضايا الحرية وتحرير الأرض والسيادة. ويمكن القول إن حالة استقطاب غير مسبوقة تهيمن على الأجواء العامة في العالم العربي تتمحور حول الصراع المحتدم إزاء هذه القضايا. هذا الاستقطاب غير المعلن، وربما غير الواضح لدى الكثيرين، يتواصل منذ حوالي ثلاثة أرباع القرن. فقد بدأ بعد الحرب العالمية الثانية وتغوّل الدولة القُطرية وفرض الكيان الإسرائيلي على المنطقة. إنه استقطاب عقيدي، فكري، إيديولوجي سياسي لا يكاد يتوارى قليلا حتى ينطلق كأقوى ما يكون. الشعوب العربية تمثل أحد طرفي هذا الاستقطاب، وهو طرف ثابت لم يتغير طوال الحقبة المذكورة. أما الطرف الثاني فهو النظام السياسي العربي الذي يساهم في التأزيم بسبب عدم انسجامه مع القضايا الثلاث، مدعوما بدول «العالم الحر». ويتم تبادل الأدوار لقيادة هذا النظام وتوجيه بوصلته بشكل متواصل لضمان ثباته في موقعه. كانت قيادة هذا النظام مرتبطة بمصر عبد الناصر، التي بدت للبعض، في حقبة قصيرة، واعدة بتجاوز الاستقطاب، خصوصا عندما تبنت إيديولوجية عروبية ثورية في مقابل إسلام محافظ تمثله السعودية. ولكنها سرعان ما تراجعت بوفاة عبد الناصر قبل أكثر من خمسين عاما. وبعدها تصدت السعودية لقيادة العالم العربي حاملة لواء العروبة المحافظة لمواجهة ظاهرة الإسلام الثوري الذي عرف لاحقا بالإسلام السياسي. وتفاعلت الظروف على مدى العقود اللاحقة، فتراجعت مصر عن دورها القيادي وحدث فراغ سعت دول صغيرة لملئه.
في العقد الأخير استطاعت دولة الإمارات التي تحتفل هذا العام بمرور نصف قرن على قيامها، القفز بدون مقدمات إلى واجهة النظام السياسي العربي، وجعلت من نفسها لاعبا واضحا في إعادة صياغة هوية المنطقة وعلاقاتها البينية. هذا الصعود المفاجئ جاء في إثر مبادرات لمد النفوذ خارج الحدود الاقليمية على أمل كسب دعم خارجي لسياساتها الاقليمية. وكان للمال النفطي الهائل دور في توسيع ذلك النفوذ. وحيث أن الصعود المفاجئ لم يكن بتخطيط مناسب أو وفق أسس إيديولوجية أو مبدئية، فمن المتوقع أن يتراجع سريعا. بدأ هذا النفوذ المصطنع بتجارب خارج الإقليم بتمويل ملوك ورؤساء لكسب مواقفهم. ومنهم رئيس وزراء ماليزيا السابق، نجيب عبد الرزاق الذي اعلنت السلطات الماليزية الأسبوع الماضي إشهار إفلاسه رسميا بعد فشله في دفع فاتورة ضريبية تزيد قيمتها على 400 مليون دولار. وسيؤدي ذلك لانهاء حياته السياسية، حيث سيضطر إلى ترك مقعده البرلماني، ولن يكون مؤهلا لخوض الانتخابات. كما دعمت أبوظبي ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس، الذي استضافته أبوظبي بعد مطاردته من الجهات القضائية الإسبانية، ويعاني في الوقت الحاضر أزمة مع حكومة بلاده بسبب تهربه من الضرائب التي يسعى لدفعها بالاقتراض. وفتحت الإمارات أبوابها للمسؤولين الفارين من اليمن والعراق وسوريا.
هذه الحقائق تؤكد حدوث تغيرات على مستوى العالم العربي غير مسبوقة، والمرجّح أن تستمر ذلك حتى يحدث ما هو خارج المألوف على غرار الربيع العربي
هذا في الوقت الذي تضم معتقلات الإمارات العديد من النشطاء مثل احمد منصور، الدكتور ناصر بن غيث، الدكتور محمد الركن، الدكتور محمد المنصوري، وأعضاء مجموعة النشطاء المعروفة باسم الإمارات 94، المحتجزين في سجن الرزين سيئ السمعة، الواقع في الصحراء على بعد 120 كيلومتراً من أبوظبي. ويعاني أحمد منصور، عضو المجلس الاستشاري لمركز الخليج لحقوق الإنسان، من ظروف صحية سيئة. وساهم إبقاؤه في الحبس الانفرادي منذ اعتقاله في 20 آذار/مارس 2017، والذي يُعتبر شكلاً من أشكال التعذيب بحد ذاته، في تدهور صحته الفكرية. ومن بين الناشطين الذين أنهوا مدة عقوبتهم ولا يزالون في السجن: أحمد محمد الملا، فيصل علي الشحي، عبد الله إبراهيم الحلو، سعيد عبد الله البريمي، عبد الواحد حسن الشحي، خليفة ربيعة، عبد الله عبد القادر الهاجري، عمران علي الحارثي، فهد عبد القادر الهاجري، محمود حسن الحوسني، ومنصور حسن الأحمدي.
التمدد الإماراتي في العالم العربي له عدة أهداف:
الأول: بسط النفوذ الإماراتي السياسي لتوفير موقع قيادي مؤثر في السياسات العربية. كان تدخل الإمارات في البحرين مع السعودية قبل عشرة أعوام بداية ذلك التمدد. ثم جاء تحالف الإمارات مع السعودية لشن الحرب على اليمن. ثم توسع النفوذ الإماراتي في الصومال والسعي للهيمنة على الموانئ القريبة من باب المندب مثل أسمرة وبربرة وجيبوتي بالإضافة لميناء عدن وجزيرة سوقطرى التابعتين لليمن. وتظهر خرائط الموانئ في المنطقة تمددا جيوستراتيجياً إماراتياً توزع ما بين اليمن والقرن الإفريقي ومصر، بعيداً عن مناطق نفوذ السعودية التي تركت لها الإمارات «قيادة» الخليج والعالم الإسلامي، لتخلق لنفسها دوراُ أشد أهمية وتأثيراً خارج محيطها الإقليمي الخليجي المليء بالنزاعات ومحاولات السيطرة. وهناك تدخلها المباشر في ليبيا ودعم المنشق خليفة حفتر لضمان نفوذ مستقبلي في ذلك البلد العربي المبتلى. وتدخلت في السودان لدعم العسكر بهدف التأثير على سياسات السودان الخارجية. واخيرا بدأت الإمارات بمد نفوذها في العراق بالاعلان عن «استثمار» ثلاثة مليارات دولار. واتفق رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي في زيارته الأسبوع الماضي لأبوظبي مع حكومتها على امور عديدة من بينها إعادة بناء منارة الحدباء وجامع النوري وعدد من الكنائس في محافظة نينوى.
الثاني: التصدي للظواهر السياسية الهادفة للتغيير على غرار ما حدث في الربيع العربي. وقد لعبت الإمارات دورا في هذا الجانب، فتصدت لمحاولات التغيير، بالتدخل المباشر أو بتقديم العون المادي للأنظمة التي تواجهها بالقوة. فبالإضافة للتدخل في البحرين دعمت الإمارات حكم العسكر في مصر، خصوصا في استهداف العسكر جماعة الإخوان المسلمين بشدة. وفي الأسبوع الماضي أصدر العسكر حكما بسجن نائب المرشد العام السابق، محمود عزّت، مدى الحياة. وفي الأسابيع الأخيرة عرضت الإمارات على مصر دعمها في أزمة سد النهضة مع أثيوبيا، في مقابل تنفيذ القاهرة رغبة أبوظبي في التدخل العسكري في ليبيا.
الثالث: ترويج التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. هذا التوجه جديد في المنطقة، فحتى مصر التي كان رئيسها أنور السادات أول زعيم عربي وقع اتفاق سلام مع «إسرائيل» في 1979 لم تحول التطبيع الى ممارسة يومية وعلاقات مع العدو، بل حصرته بالعلاقات الدبلوماسية. أما الإمارات فقد أدارت مشروع التطبيع بحماس كبير.
الرابع: التصدي لمشروع الإسلام السياسي. وهذا أمر جديد قديم. فمنذ عقود كانت سياسة الإمارات مضادة للحركات الإسلامية.
هذه الحقائق تؤكد حدوث تغيرات على مستوى العالم العربي غير مسبوقة، والمرجّح أن تستمر ذلك حتى يحدث ما هو خارج المألوف على غرار الربيع العربي الذي تصدت له قوى الثورة المضادة بقسوة. الأمر المؤكد أن هناك من يبحث عن دور للتأثير على مسار هذه الأمة، ولكن الدور الأقوى سيكون، برغم قسوة الظروف، للشعوب المستهدفة في وجودها وهويتها ووعيها وتطلعاتها.
كاتب بحريني