«الستر زين»

حين كتبت متسائلة قبل أيام حول التكلفة الصحية والاقتصادية للحفل المصري لنقل المومياوات في هذا التوقيت بالذات، ثارت ثائرة المصريين على تويتر لما اعتبروه هجوماً وتشكيكاً وتدخلاً في الشؤون الداخلية. وعلى حين أننا كشعوب عربية لا نختلف مطلقاً عن بعضنا البعض في ردات فعلنا الأبوية البدائية تلك من حيث تمسكنا بمبدأ «شؤوننا الداخلية» في زمن لم يعد فيه هناك شأن داخلي، وعلى حين أننا كشرق أوسطيين عموماً مرتابون نفسياً حد تصور كل نقد تشكيكاً وكل تساؤل هجوماً، إلا أنني أتصور واثقة أن الغضبة المصرية كان مبعثها الحقيقي مختلفاً بعض الشيء، وإن كانت النتيجة الحزينة واحدة في النهاية. نعم، هناك ذات الحساسيات العربية، لكن كان هناك عاملان إضافيان في مساحة تساؤلي هذا، جعلا أي استفسار أو نقد مهما كان خفيفاً متأدباً يبدو وكأنه رشة ملح على جرح.
أولاً، كان لتأزم العلاقات الشعبية الكويتية المصرية مؤخراً أكبر أثر في تشكيل ردة الفعل العنيفة على الرأي. تبادلت أطراف مريضة من كلا الشعبين تقريعات وتشكيكات وإهانات بشكل مستمر متصاعد، وساهمت الحكومات في صب الزيت على النار باتخاذ إجراءات متبادلة تجاه زوارهم أو مقيميهم من الشعبين، مما أجج نار الغضب أكثر فأكثر بينهما. وقد جاءت الترحيلات المستمرة من الحكومة الكويتية تجاه بعض المصريين على إثر بعض الفيديوهات التي يسجلون فيها شكاواهم بطرق مختلفة لتصعد نبرة النزاع، ثم جاءت أزمة تسريح الكثير من المقيمين في الكويت من أعمالهم في حملة «تكويت» للوظائف لتعمق الغضب، وأخيراً جاءت أزمة منع عودة المقيمين للكويت إبان أزمة كورونا ليزاولوا عملهم، مما تسبب لهم في خسائر فادحة؛ لتصبح القشة التي كسرت ظهر البعير. وقد كان لبعض التصريحات النيابية في الكويت بالغ الأثر في تشويه العلاقات، ليتبع ذلك -بالمقابل- تصريحات مصرية قاسية على وسائل الإعلام، وهكذا تشكلت دائرة فاحشة من البغض ذي الحس العنصري والتي أوسعت المسافة بشكل كبير بين شعبين متحابين.
أما ثانياً فيتمثل في تحول الصراع الداخلي المصري «الجيش- الإخوان» أي بين مؤسسة الجيش ومؤسسة الإخوان، وهو صراع قديم آخر مراحله كان سقوط محمد مرسي عن العرش واعتلاء مؤسسة الجيش له، إلى المؤطر الأساسي لكل حدث وردة فعل تحدث في مصر. لقد نُظر لحفل نقل المومياوات على أنه انتصار للرئيس السيسي وتتويج إضافي له، خصوصاً بطريقة ظهوره وحيداً مستقبلاً موكب المومياوات وكأنه يعلن تتويجاً جديداً. اليوم أصبح كل نقد يوجه لأي قرار مصري أو طريقة إدارة مصرية هو دسيسة إخوانية، أصبحت كل شكوى من الحالة الاقتصادية الصحية المتردية ضرباً من كسل في أفضل الحالات، وخيانة في أسوأها. أي خطأ يقع هو إما نتيجة «عدم صبر» الناس، وهي تقليعة قديمة في تحميل الشعب المنهك المسؤولية، أو هو خطأ «تم إيقاعه» بدفع إخواني أو خارجي، أما الرئاسة والجيش فلا مكان لنقدهما في مصر. لقد اتخذ المشهد العام في مصر منحى قطبياً شديد الانحياز، منحى عزل مكون مهم في مصر، وهو المكون الإخواني، وهو ما سيتسبب في استمرار صراعات مريرة وفي تعميق انشقاقات خطيرة داخل المجتمع المصري.
وعليه، بإسكندرانيتي الكويتية، حيث إنني قضيت معظم طفولتي في الإسكندرية وكنت لا أعرف سوى الحديث بلهجتها إلى سن العاشرة، وبيساريتي الاجتماعية الليبرالية، تحولت أنا بعد تغريدتي المتسائلة إما إلى خليجية عنصرية «ترعى المعيز والجمال» أو إلى إخوانية متآمرة على مؤسسة الرئاسة. كيف تبدلت الصورة بحدة هكذا؟ كل ما حدث أنني سألت: هل من الملائم إقامة هذا الحفل الكبير في ظل هذه الظروف الاقتصادية العالمية الخطرة وفي ظل هذه الظروف الصحية العالمية الكارثية؟ هذا وأنا أمسكت عن السؤال الثالث الأكثر إلحاحاً بين كل الأسئلة. ماذا لو أنني صرحت به؟ ماذا لو أنني سألت: هل كان لائقاً أن يقام هذا الحفل المهيب بعد أقل من عشرة أيام من موت عشرات الناس في حادثة تصادم قطاري سوهاج، وهي الحوادث غير الغريبة على الدولة والتي يذهب ضحاياها الآلاف سنوياً؟ ما كان سيحدث لو أنني كتبت هذا السؤال على تويتر؟ ماذا كان سيكون رد الفعل لو أنني ذكرت أن حوادث مريعة مثل هذه لا تؤجل احتفاليات فقط، لكنها تسقط حكومات بأكملها؟
ليست ردة الفعل المصرية غريبة عن وعائها العربي. يحدث ذلك في الكويت، كما في مصر، كما في بقية دول الخليج، كما في الأردن وسوريا، كما في كل أنحاء هذا الوطن العربي المسكين. النقد الداخلي خيانة، النقد الخارجي تدخل في شأن خاص أو انحياز أيديولوجي أو مؤامرة سياسية. وعلى قدر ما نتغنى بالعروبة، بقدر ما نكره بعضنا البعض ونكرهها لأنها تربطنا ببعضنا مقسرين. العروبة هذه تصلح للأغاني، تصلح للشعارات واللافتات، أما عند النقد وتبادل الآراء فيفضل أن «تخلي عروبتك لنفسك». ولمَ نستغرب؟ ها هي قوميتنا فخر الصناعة العربية من الخليج إلى المحيط، هل استطاعت أن تصد عن فلسطين؟ بل هل استطاعت، على أقل تقدير، أن تصد عن التطبيع مع مغتصبها؟ كل واحد يخلي عروبته لنفسه أفضل له، أو يستخدمها لنقد الغرب «الشرير» الذي يحترم النقد ويتفهم حتميته البشرية الجمعية. أما عند أنفسنا أو «جيراننا» فالستر أوجب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    4-لا أظن كاتبة المقال وحدها التي انتقدت السلوك الجلف المستهتر للعصابة العسكرية الانقلابية، بل سبقها مصريون كثيرون، ومنهم من يلمع بيادة العسكر ويسبح بحمدهم، فقد قال أحدهم إنه كان يفضل بناء متحف صغير لتوت عنخ آمون وحده، وتطوير متحف التحرير، وتحدث كثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن السفه في الإنفاق، والرغبة في التغطية على الفشل الذريع في معالجة موضوع سد الحبشة الذي وقعوا بالموافقة على بنائه بأيديهم وهم يعلمون سلفا أنه سيقتل ملايين المصريين عطشا.

  2. يقول علي:

    5-نبرةالتعصب الخليجي لا يمكن إنكارها ، وخاصة لدي من يبتعدون عن الدين وسماحته، وهؤلاء أقرب إلى الأعراب الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله، وهؤلاء ينسون دور المصريين البسطاء في تطوير الخليج وتحديثه حين جرت في أيديهم أوراق الدولارات أنهارا، بعد أن جرت دماء المصريين أنهارا في قناة السويس وخط بارليف. هؤلاء يبطرون النعمة ولا يذكرون ما قبلها، والحمد لله فهم قلة مع علو صوتهم المنكر. قال لي زميل خليجي كبير – أطال الله عمره- وهو يتذكر الأيام الخوالي، كم كنا ننتظر موسم كذا الذي يأتي فيه المصريون ومعهم الخير ،ومعهم مستلزمات الجهات الفلانية، ومتطلباتها دون منّ أو أذى، وقال ..وقال.. المهم في الأمر أن هذه الأقلية لا تتوجه بكلمة أو حرف إلى عدو الأمة الذي يشاهد ما يجري ويزغرد في كمه، وهو يرانا نحن العرب نتناطح كما الماعز أو الخرفان.
    نسأل الله أن يهدي الجميع!

  3. يقول S.S.Abdullah:

    وأخيراً، سبحان الله مقال بعنوان («الستر زين») للكويتية (د. ابتهال الخطيب) كما هو عمل الأدب من أحمد مطر في وصف (بربرية مرجعية المالكي) والحمدلله،

    حكومة بشار الأسد، على لسان زوجته، عندما تطالب بأتمتة الزكاة والصدقة في عام 2021، كما أميركا عندما تطالب بأن تلتزم كل دولة بضرائب لا تقل عن 21%،

    لم ولن ولا يعني إلتزام أي دولة لتحسين مستوى جودة وكفاءة الخدمات التي يجب أن يقدمها أي موظف، يجلس على كرسي الوظيفة في أي دولة،

    بل يعني تحميل الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية، مصاريف الأجهزة الأمنية والعسكرية والمخابراتية والقضائية، وأهم شيء عقود السلاح والتسليح مدخل الفساد والغش والشفاعة أو المحسوبية والواسطة، لترسية على فلان، وبالتأكيد على حساب الجودة والكفاءة التي يقدمها علان.

  4. يقول نزار حسين اشد ...كاتب أردني:

    كلمة حق تشكرين عليها.

  5. يقول سامى عبد القادر:

    أولاً: الحمد لله أننى عشت حتى قرأت مقالاً للدكتورة ابتهال الخطيب, أتفق معها فيه من أول كلمة لآخر كلمة (باستثناء; قوميتنا فخر الصناعة العربية)
    .
    ثانياً: الإسطوانة المشروخة المقززة التى يرددها البعض -كما تفضلت د. ابتهال- باعتبار النقد المُباح للدول ومسئوليها الفشلة تدخلاً فى الشئون الداخلية, ولا يجوز إلا لحاملى جنسية هذا البلد البائس!! … هذه المقولة المقززة هى عَرَض لمرض عضال تسببه جرثومة خبيثة قاتلة تسمى “جرثومة سايكس بيكو”, والتى اجتاحت أمتنا الممزقة بعد أن هجرنا -بغباء منقطع النظير- ديننا الذى هو ((وحده)) عصمة أمرنا ومصدر قوتنا وعزتنا ووحدتنا; “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً”, صدق الله العظيم
    .
    أما جملة: “قوميتنا فخر الصناعة العربية، هل استطاعت أن تصد عن فلسطين” … فهى جملة خاطئة, وتصحيحها هو: “الخلافة الإسلامية, حتى فى أضعف حالاتها, هى التى صدت عن فلسطيننا المحتلة … فلما سقطت بسبب الأعراب الخونة, واستبدلوها بأردأ وأسوأ صناعتهم “القومية العربية”, ضاعت فلسطين, ثم ضاعت بعدها أمتنا كلها من محيطها إلى خليجها”!!

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      ” أولاً: الحمد لله أننى عشت حتى قرأت مقالاً للدكتورة ابتهال الخطيب, أتفق معها فيه من أول كلمة لآخر كلمة (باستثناء; قوميتنا فخر الصناعة العربية) ” إهـ
      الدكتورة حفظها الله من القوميين العرب! ولكن من فرع اليساريين الليبراليين, وليس فرع الإسلاميين!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    2. يقول سامى عبد القادر:

      شكراً لتعقيبك الكريم يا أخى الفاضل المحترم الكروي داود
      .
      أعلم اتجاهات الدكتورة ابتهال, ولكن لأن اليوم يوم “شبه اتفاق نادر” مع ما كتبت, فلم أشأ أن أزد عما قلته فى حق القومية العربية التى أجهزت على أمتنا التائهة البائسة … ويضيق يصدرى ولا ينطلق لسانى “مؤقتاً” يا أخى الفاضل الكروي داود

  6. يقول Mohsen Suleiman:

    كل التحية لقلمك الجسور والمعنى المكثف ،فحضرتك لا تستفزي ولا تستعرضي لتقولي انا هنا
    ما لديك هو اقوى وهو المنطق المدعوم بالظواهر
    لقد تجاوزت معضلة الطائفة والدين بشكل عام ورغم سهام النقد التي تطالك الا انك مصرة على إكمال واستماع رسالتك فكل التحية والاحترام لك
    ودائما العسكر في مصر يهربوا إلى الماضي الفرعوني لييغطوا على فشلهم وعجزهم فعلها من قبله السادات عندما ذهب منفردا وعقد اتفاق السلام وعندما قاطعه جميع العرب ذهب إلى ماضيه الفرعوني

  7. يقول باسم ابراهيم عليان:

    صدقت ابنتي الغالية الدكتورة ابتهال كم انا فخور بك وبما تكتبين لإنك تعبرين بصدق عن واقعنا العربي سلمت يداك ودمت عزيزة في ظل اسرتك ووالديك ومحبيك

  8. يقول سمير الإسكندرانى/ الأراضى المصرية المحتلة! … لابد لليل ان ينجلى:

    انا ايضاً اعترف انى لأول مرة اقرأ مقال للسيدة الكاتبة واتفق مع معظم ماجاء فية إلا مقولة ان الصراع فى مصر هو بين العساكر والأخوان المسلمين.
    الصراع فى مصر كما ذكر الاستاذ على هو صراع بين الشعب المكلوم الذى يحلم بحياة حرة كريمة وبين عصابة ارهابية مليشياوية مغتصبة للسلطة والثروة من سنة 52 الى الآن، تدير الدولة بأسلوب العصابات المافياوية ولا تتورع عن ارتكاب كل الجرائم والموبقات بدءا من تلفيق التهم والاعتقال التعسفى مروراً بالسحل والتعذيب والاعتصاب وليس انتهاءً بالقتل تحت التعذيب، بل حتى بعد الموت هناك الابن والابنة والزوجة والأخت والأم، عصابة العساكر الحرامية لم تفرط فقط فى اراضى الدولة وجزرها ومياهها الدولية بما تحتوية من ثروات بل حتى لم تترد لحظة فى التنازل عن شريان حياة الدولة المصرية الوحيد منذ ان خلق الله الأرض اعنى نهر النيل!
    بالرغم من عشقى للتاريخ وانبهارى بالحضارة المصرية القديمة تحديداً إلا اننى اكره سفه عصابة العساكر الحرامية وبلحتهم المأمعة! والذى ارى انه يحفر قبره بيديه لأن ربنا مسلطه على نفسه!
    قريباً ان شاء الله الفيلم العالمى ليلة القبض على بلحة!

  9. يقول فؤاد مهاني - المغرب -:

    أحسنت يا دكتورة،لم تقولي إلا الحق.لما طالما تغنينا بالعروبة والقومية العربية وكونا تحالفات محورية باسم الصمود والتصدي
    وعقدنا مؤتمرات لكن لا نتقبل النقد ولا نشر غسيلنا الوسخ سواء داخليا أو خارجيا.(كل شي زين الحمد لله) نعيش في مدن أفلاطونية ولهذا (انتصرنا) في سوريا والعراق وفلسطين.

  10. يقول Riad Attar:

    الدكتوره العربيه الكويتيه ابتهال الخطيب هي واحده من المفكرين/ات اللذين ينتقدون بموضوعيه بدون اهداف مخبوءه وانا على يقين انها لاتخفي اي اهداف خارج الحروف المكتوبه . الدكتوره مفكر مافوق خليجي او لبناني او مصري او…، يعني ماعندها نزعه شوفينيه لاخليجيه ولا غيرها. هي احد اهم علماء الاجتماع والسياسه في عالم عربي مكتظ بدعاة العلم (ماعندهم موهلات اكاديميه). لاشك انها بتحب مصر الف مره اكثر من اللي هاجموها.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية