أحمد خلف من الروائيين العرب الرواد الذين عاصروا زمن السرديات الكبرى الحديثة، وإرهاصاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على العالم والمنطقة العربية، ورافق عن وعي ثاقب نشوء الثقافات المضادة لها، وانخرط في هذا المشروع المضاد كغيره من الشباب العربي المثقف، الذي شهد زمن التحولات الكبرى في المجتمعات العربية أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، إلا أنه بقي يعيش حالة الارتباط المشيمي مع تراثه العربي بكل تجلياته الدينية والفكرية والتاريخية، كون الذائقة الأدبية للبيئة الفعالة المحيطة به ما زالت عالقة في هذا التراث، وتأثر بالأحداث الكبيرة التي رافقت مسيرته الأدبية، من انقلابات عسكرية وثورات وحروب، وانتكاسات غيّرت الوجه العام للمجتمعات العربية، وطرحت تحديات جديدة أمام الإنسان العربي المعاصر، وانعكست نتائجها سلبا أو إيجابا عليه بصورة مباشرة.
في مجموعته القصصية الأولى «نزهة في شوارع مهجورة» الصادرة سنة 1974 في قصة «خوذة رجل نصف ميت» نجد أن أحمد خلف انطلق من سردية كبرى وهي الحرب، نحو سردية مضادة وهي تداعيات هذه الحرب على الإنسان العربي، الذي وقع ضحية لها، الشاب الذي يعود من حرب عربية خاسرة بعوق جنسي، لا يستطيع مواجهة زوجته الفتية، به. قصة «المحطة» يطرح لنا جدلية ميثولوجية أزلية رافقت البشرية منذ مهدها ولغاية الآن، حتى تحولت إلى سردية كبرى عند الكثير من الشعوب والطوائف الدينية، وهي انتظار المنقذ، هذه السردية الكبرى التي أعطى لها الكاتب الأيرلندي صاموئيل بيكت حيزا كبيرا في مسرحيته «في انتظار غودو» نجد أن أحمد خلف يعيد طرحها من منظور جديد، فبطله سلمان يجلس في المحطة كل ليلة بانتظار من يحمل شيئا جديدا له، شيئا يمكن أن يغير بعض تفاصيل حياته، وينتشلها من رتابتها، ويحقق له بعض أحلامه، التي تمثل (سرديات صغرى) لتنتهي القصة بنوع من الكوميديا السوداء. في روايته «الحلم العظيم» الصادرة سنة 2009، التي تناول فيها فترة حرجة في تاريخ العراق الحديث، تمثل ذروة الصراعات الأيديولوجية على المستوى الإنساني والمستوى العراقي الداخلي، وهي محاولة لفهم العلاقة بين الوعي والوجود، في خضم التزاحم الفكري الذي كان سائداَ آنذاك. شاب مثقف يكتب القصة القصيرة، التي لم يجد لها سبيلا للنشر في الصحف والمجلات، يعيش فوضى اجتماعية ونفسية مصاحبة لوعي استثنائي، يرافقه شبق جنسي غير منضبط، يفسر طبيعة هذه الشخصية القلقة ومعالمها، هذه الرغبة الجنسية العارمة، دفعته إلى أن يصبح عشيقا لزوجة أب صديقه المقرب، وحبيباَ لأخت ذلك الصديق في الوقت نفسه، وعشيقا لجارتهم الجميلة، هذا الجموح قاده إلى الوقوع في المحظور، حين أقدم على قتل زوج جارتهم الجميلة، طمعا بها، وبأموال الزوج المغدور، التي يخفيها في مكان ما في داره، كما أخبرته الزوجة الخائنة. كانت حركة البطل وآراؤه وتصوراته الشخصية، عن الأحداث السياسية والاجتماعية الدائرة من حوله، تمثل وجها من أوجه الصراع بين الموروث القيمي بسردياته الكبرى، وسرديات صغرى تمثل، جموح النفس الإنسانية ورغباتها وتصوراتها عن الواقع المعاش، فقد كان البطل أنموذجا للمثقف الستيني، الذي عاصر أهم التحولات السياسية والفكرية والاجتماعية، التي مرّ بها العراق الحديث، وتأثر بالفلسفات الوجودية والمادية والجدلية التشكيكية، والأفكار التحررية المقبلة من الغرب (أفكار وتحولات ما بعد الحداثة) التي هيمنت على الفكر الإنساني آنذاك، واعتنقها معظم الشباب العراقي في تلك المرحلة، كما في حديث البطل مع نفسه في أحد المشاهد الصامتة «أنا أفكر فأنا موجود، ليس ديكارد أفضل مني حين يفكر جادا إنه موجود، من خلال التفكير الذي يميزه عن الحيوان».. كان هذا البطل يعيش صراعا فكريا ونفسيا حادا، بين ما يمكن أن يمثله من قيم وأخلاقيات إنسانية سامية، من خلال نشأته وموروثه البيئي وما يكتبه من نصوص قصصية، وحياته العبثية المنقسمة على نفسها، في فوضى العلائق المحرمة، وحب لا يجد له طريقا، بين ركام الغرائز المحاط بها، لذا كانت الإشكالية الكبيرة التي يعانيها هي: عن ماذا يكتب؟ ولمن؟ وكيف؟ وهل يحق له الكتابة عن المثل العليا؟ «عن أي شيء تريد الكتابة، ومن أجل من سوف تسود الصفحات الطوال؟ عن الحبيبة المستحيلة؟ أم عن الزوجة الخائنة؟ وهل لك مقدرة على ترك مئات الناس الذين يتضورون من الجوع والآلام والاضطهاد أيضا؟ مع من سوف تقف؟».
في روايته «نداء قديم» قدّم لنا أحمد خلف أنموذجا سرديا آخر امتزج فيه الماضي بالحاضر، والواقع بالدين والأسطورة. تبدأ هذه الرواية القصيرة أو القصة الطويلة بمدخل فلسفي، يغوص في أعماق الذات الإنسانية، ويمهد لأحداث دراماتيكية سوف تطغى على المشهد العام للنص.. «في أول المساء، تحرك القطار وغادر بلدتنا النائية كعادته كل يوم، ثمة غيوم تحوم فوق رؤوسنا المشتتة البال، غيوم تتعدانا وتمضي إلى الناحية الأخرى، غيوم سود تخيم على يدي وأطراف جسدي، خفت أن تتساقط أطرافي واحدا إثر الآخر، كل شيء جائز ويمكن أن يكون، سأحتفظ بيدي إلى النهاية».. مشهد يصور سردية كبرى لأزلية الوجود، وهي لحظة مغيب الشمس بكل ما يحمل هذا المشهد من تأثيرات سيكولوجية تبعث على الإحساس بالغربة والوحدة والوحشة والأفول، كونها نقطة الشروع للظلمة وتأثيرها في الفطرة البشرية بوجه عام، ليرتبط هذا المشهد المهيب بتحرك القطار، مغادرا البلدة إلى أصقاع مجهولة لم يشر إليها الروائي، على الرغم من تكرار هذه الرحلة لعدة مرات في النص، قطار مقبل من المجهول يتوقف عند بلدة نائية، كما سماها الروائي، لا يُعرف مكانها، ويغادر إلى المجهول. في روايته «محنة فينوس» كانت الأسطورة أساسا لهرمية النص ومنطلقا ميثولوجياَ يستمد وجوده من سردية كبرى، هي الآلهة والأساطير نحو سرديات صغرى تتعلق بمشاكل الإنسان العراقي المعاصر في ظل الحروب والانتكاسات والأزمات، وقد تحدث أحمد خلف عن روايته هذه خلال لقاء صحافي نشره موقع إيلاف «هذه الرواية في الحقيقة استعارت من الأساطير الإغريقية مجموعة من الثيمات، إشارات ودلائل عبر حبكات قصيرة، استطاع المؤلف أن يبتدع بعضها ضمن افتراض خيالي في إنها حدثت لمجموعة من الآلهة الإغريقية، ولكن توظيف الأسطورة في هذا العمل الروائي ليس من أجل كتابة رواية أسطورية، بل تم استخدام الأسطورة من أجل الرواية، التي تعتمد على أسطرة الواقع عبر الزمن بأبعاده الثلاثة، تكون فيها حصة الماضي مختزلة بهيمنة الحاضر، الذي يرشح مزيدا من الإشارات والعلامات التي تأخذ قارئ الرواية نحو آفاق جديدة غير ما أنتجه الماضي، أو ما يدفع به الحاضر من إفرازات، لهذا.. فالرواية محنة فينوس بقدر ما هي ذات صبغة ماضوية، فهي تستشرف المستقبل وتدين حاضرها بعد فضحها لماضي الأيام التي مرّت وهي محملة بعذابات لا يحتملها جمل، عاشها الناس هنا في هذه الرقعة الجغرافية المباركة من العالم».
تبقى رواية «موت الأب» الصادرة سنة 2002 هي المؤشر الحقيقي لقدرة أدب أحمد خلف على التعاطي مع السرديات الكبرى المؤثرة في مجتمعه، وطريقة التصدي لها، بطرق غير مباشرة.
وتعد رواية «الخراب الجميل» التي كتبت بين عامي (1977 ـ 1979) وصدرت عام 1981 أنموذجا متقدما لهذا النمط السردي في تلك المرحلة.. تناول فيها خلف ثيمة تتلاءم مع الانزياحات الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي كانت تهيمن على العقل الجمعي العراقي، فاختار مجموعة من الصحافيين العاملين في مجلة حكومية ليشكلوا (البنية التكوينية للنص) كما عبر عنها الناقد لكولد هان.. (محمود، مها، ليلى، يوسف، خالد) هؤلاء النخبة المثقفة زجهم أحمد خلف في مقتربات عاطفية وتقاطعات فكرية ونفسية، أنتجت نصا ناضجا غنيا بالدوال الحسية، المفعمة بالأمل والتطلعات الجميلة، مع مزيج من هموم ومشاكل الإنسان العربي المعاصر، التي شكّلت لديه ثقافة مضادة للموروث والنظريات الكبرى. وقد بين أحمد خلف نوعا جديدا من الصراع القيمي طرأ على المجتمع العراقي كنتيجة طبيعية لحركة التاريخ والتطور الحضاري والفكري، الذي شهده العراق في تلك المرحلة، هذا الصراع بين السرديات الرئيسية الكبرى (الدين والعرف والموروث البيئي وعادات وقيم الريف) من جهة، والواقع المادي والحضاري للمدينة من جهة أخرى، الذي مثل ثقافة مضادة، تجسد في قرار (خيرية) زوجة شقيق محمود، بالعمل في أحد معامل الخياطة، هذا القرار الذي أفرز هذا التباين والتقاطع بين قيم البيئتين، حين رفضت أسرة زوجها هذا القرار وحاربته بكل السبل، إيمانا منها بخطأ وكارثية هذا القرار على سمعتها، وعاداتها وأعرافها، التي ما زالت متشبثة بجذورهم الريفية، التي ترفض مثل هذا النوع من الاختلاط بين الرجل والمرأة.
رواية «تسارع الخطى» الصادرة سنة 2014 كانت إشارة واضحة إلى حجم السوء الذي طرأ على المجتمع العراقي بعد الاحتلال، بسبب الإرهاب والفساد الإداري والمالي، والانفلات الأمني الذي شهده، يسلط أحمد خلف الضوء في روايته هذه على جزئية مهمة، تمثل أحد أوجه الثقافة المضادة، اتجاه مثل تحولات كبيرة وخطيرة كهذه في البنية السياسية والاجتماعية العراقية، وهي أزمة المثقف العراقي، حيث شكلت أزمة المثقف، النافذة الرئيسية التي أطلت بالقارئ على المشكلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عراق ما بعد 2003 عبد الله الفنان والكاتب المسرحي، كان يمثل رمزا للقوى الناعمة التي فقدت بوصلتها، في خضم فوضى الشد والجذب بين القوى السياسية من جهة، والإرهاب والفساد من جهة أخرى..»إذن أنت المسرحي الذي يحرص البعض منا على العثور عليه، ماذا تقول في مسرحياتك؟ هل تتحدث عن النساء الجميلات؟ أم عن التجار المفلسين؟ وعن حرامية الكهرباء؟ عن أي شيء تتكلم في مسرحياتك؟ أم تتحدث عن الخطف والاغتيال وسرقة المال العام؟».
وتبقى رواية «موت الأب» الصادرة سنة 2002 هي المؤشر الحقيقي لقدرة أدب أحمد خلف على التعاطي مع السرديات الكبرى المؤثرة في مجتمعه، وطريقة التصدي لها، بطرق غير مباشرة، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هذه الرواية كتبت في زمن النظام السابق، ولم تر النور إلا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، لذلك كان أحمد خلف ذكيا في التعبير عن مشاكل مجتمعه آنذاك، بطريقة تنم عن امتلاكه لسعة أفق كبيرة، وإخضاعه البنية الاجتماعية العراقية في زمن الحروب والحصار الاقتصادي، وتداعي مفهوم الدولة إلى مشرطه الفكري والمعرفي، وقيامه بعملية تشريح دقيقة للكم الهائل من المشاكل السياسية والاجتماعية والنفسية، التي نخرت المجتمع العراقي كنتاج طبيعي للحروب والأزمات التي لازمت تاريخ العراق الحديث، وقيامه باستشراف المستقبل عبر نبوءة سياسية خطيرة، كانت تحتاج للبوح بها إلى شجاعة كبيرة من قبل الروائي. فقد كانت دلالة الطائر الأسود في الرواية، تشير إلى نذر الحرب التي كانت تلوح في أفق العراق وبداية النهاية للرئيس، والعم نوح إشارة إلى القوى الوطنية التي سحقها النظام، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هذه الرواية كتبت بين عامي (1995 ـ 2000) كان فيها العراق على شفا حرب مدمرة، وحصول تداع كبير في البنية الاجتماعية والسياسية له، حتى أطلق الروائي على هذه الفترة (زمن الحيوانات) في حوار بين الابن وصديقه «لقد عشت معه زمن يليق بالحيوانات» وفي موضع آخر «ستكون شاهدا على زمن الحيوانات» إشارة إلى حالة التدجين القسري التي مورست على الشعب العراقي آنذاك.
أخذت السرديات الرئيسية الكبرى (الدين والأسطورة والتراث) حيزا كبيرا من أدب أحمد خلف، من خلال (الأسماء، الاستعارات اللفظية، المقاربات القصصية، التناص المعرفي للشخصيات) وهذا أمر طبيعي، إذ لا يمكن تجريد الكاتب من محيطه البيئي والديني الذي يفرض نفسه عليه، فقد قام باستحضارها برمزيتها التاريخية وإسقاطها على الواقع المعاش بطريقة بنيوية تفكيكية، تتغلغل إلى أدق تفاصيل حياة الإنسان المعاصر، ليشكل منها سرديات صغرى تعنى بالإنسان ووجوده.
٭ كاتب عراقي