تثير الجوائز الثقافية والأدبية دوماً كثيراً من الجدل، والاتهامات بالتحيّز على أسس سياسية وأيديولوجية وعرقية وجندرية. وهي اتهامات من الصعب تجاوزها، لكن المجال الثقافي أساساً قد يكون، من حيث بنيته وآلياته، الموطن الطبيعي لكل أشكال «التحيّز». إذ لا يمكن فصل أنماط التلقي، والقيم الجمالية بحد ذاتها، عن سياقات تاريخية، تشهد نزاعاً وجدلاً بين فاعلين وفئات اجتماعية متعددة، وبالتالي فمن يمنح دعماً أو اعترافاً بعمل ثقافي معيّن، لا يفعل ذلك غالباً بناء على معطيات جمالية متعالية عن السياسة والمجتمع، بل «يتحيّز» بكل وضوح، لغايات تتعلق بموقعه الاجتماعي.
يرتبط هذا بما يمكن تسميته البنية التحتية للإنتاج الثقافي، خاصة في الشرط الحديث، فتلقي الأعمال الأدبية والفنية لا يتم بشكل مباشر بين منتج العمل ومتلقيه. كما كان يحدث مثلاً مع الفرق الفنية الجوّالة في القرون المنصرمة، التي كانت تجوب الأرياف لتسلية الفلاحين، بل يتم بواسطة سلسلة كثيفة من المؤسسات المادية، التي تسعى لإنتاج الحس الجمالي والمزاج الثقافي للعموم. مثل دعم الدول لاتجاهات ثقافية معينة؛ التعليم العام والاختصاصي؛ عمل المؤسسات الإعلامية والثقافية العامة والخاصة والمنظمات غير الحكومية؛ الصحافة والنقد الفني والأدبي. باختصار كل مؤسسات الحيز العام، وهي موطن التداول والنزاع بين مختلف القوى الاجتماعية، ومجال فرض الهيمنة الأيديولوجية. لا يعني هذا بالتأكيد رد الجماليات بالكامل إلى عوامل سياسية واجتماعية، لكنه يشرح أسباب سيادة تفضيل جمالي معيّن في عصر وشرط اجتماعي ما.
في حالة الجوائز الأدبية تمتزج الاعتبارات المتعلقة بصناعة الثقافة بالعوامل الأيديولوجية بشكل لا يمكن فصله: تنشّط الجوائز سوق النشر، وتؤسس جمهوراً متعطشاً للاطلاع على أعمال المبدعين، الذين نالوا التكريس. وذلك التنشيط، الذي يحافظ على الصناعة ويطوّرها، يحفّز بدوره رؤى وتوجهات وقيماً، ترى الجهات المشرفة على الإنتاج الثقافي أنها يجب أن تسود.
ربما يُمكّننا المنظور المشروح أعلاه، من طرح أسئلة مفيدة عن الجدل الذي أثاره منح الأديب التنزاني عبد الرزاق غورناه (أو غورناه) جائزة نوبل للآداب. فالجائزة، المُتهمة دوماً بتمثيل الانحيازات الغربية البيضاء، مُنحت هذا العام لكاتب افريقي أسود مسلم ذي أصول عربية. لا يتهاون، حسب بيان الجائزة نفسها، مع «مخلفات الاستعمار». هل نحن هنا أمام تغيّر جذري في توجهات الجائزة؟ أم هي مجرد حركة تزيينية، لإرضاء المنتقدين؟ أو بالأحرى: ما الذي يكشفه الميل الأيديولوجي المستجد للأكاديمية السويدية عن الثقافة السائدة المعاصرة؟ لا أسئلة هنا عن الأدب نفسه. فالتلقي، العربي بالخصوص، سيواجه صعوبات كبيرة في التذوق المجرّد لجماليات غورناه، مع كل تلك الحمولة الأيديولوجية لفوزه بالجائزة.
إعادة مركزة المركزية
يمكن ملاحظة تناقض مهم في الانتقادات التي تطال جائزة نوبل الأدبية كل عام: يقول المنتقدون إن نوبل فضّلت دائماً الذكور البيض عبر تاريخها. ولم تر أبعد من القارة الأوروبية واستطالاتها في العالم الجديد، إلا في مرات معدودة، ومع كتّاب استطاعوا أن يلاقوا هوى في نفوس الغربيين، مثل طاغور الذي بات أشبه بـ«كيتش» عن الحكمة الهندية في الغرب، ونجيب محفوظ المتهم بشرائه لرضى اللجنة المانحة للجائزة عن طريق الترحيب بالسلام مع إسرائيل.
وسم الجائزة بالمركزية الغربية، يستلزم منطقياً رفضها ومقاطعتها من قبل كل الساعين لتجاوز تلك المركزية، وعدم الانشغال كثيراً بها وبحيثياتها، لحساب إيجاد بديل عنها، يوصل أصوات من همشتهم طويلاً.. وهو أمر ممكن من الناحية المادية البحتة، إذ يوجد كثير من الدول، مثل الصين ودول الخليج العربي وروسيا وإيران، قادرة على رصد مكافآت مالية كبرى للأدباء المتمردين على المركزية. إلا أن تلك الدول لا تمتلك هيمنة ثقافية عالمية كافية لمنح الانتشار والقبول للكتاب الذين تكرّمهم. تبقى دولة أوروبية مثل السويد، لا يتجاوز عدد سكانها العشرة ملايين بكثير، الأقدر على ذلك، وذلك يتعلق أساساً بطبيعة الأدب الحديث نفسه: الأشكال المعاصرة للكتابة نشأت بشكلها الحالي في الغرب، بما في ذلك الشعر الحديث نفسه، فما بالك بالرواية، القالب الأكثر ارتباطاً بالتمدن والتحديث والحيز العام البورجوازي، وبالتالي فعندما نتحدث عن أديب وصل إلى «العالمية» فالمقصود هنا أنه نال القبول في المركز الذي شهد بروز حرفته الأدبية.
لا شيء في نقد نوبل إذن يتعلق بمواجهة المركزية الغربية، بل على العكس، الأمر يتعلق بما يمكن تسميته إعادة مركزة المركزية، أي تقوية وتوسيع قدرة الغرب على فرض معايير القبول والانتشار، لتشمل ثقافات وفئات وأعراق أكثر. تجد، أخيراً، الاعتراف المنتظر لدى الغرب/المركز، الذي طالت قسوته عليها.
ربما كان الأجدى تجاوز سؤال «المركزية» نفسه. وألا يركّز الأدباء والمثقفون على أن يكون سردهم مهادناً أو غير مهادن للاستعمار والرجل الأبيض. ففي أيامنا أسئلة جديدة، قد تكون أكثر ثراءً. ولعل من أهمها: كيف تكتب نصاً يطرح إشكاليات أكثر تعقيداً من أن تتمكن الأكاديمية السويدية أو غيرها من وصفه ببيان مبتذل؟
يمكن نقد هذا بصورة أفضل بالعودة إلى مشاريع التفكيك، وبعد الكولونيالية في صيغتها الأولى، أي قبل أن تصبح جانباً من «دراسات التظلّم» الأمريكية: أدرك مفكرو هذا التيار أن التحرر الوطني نفسه، المناهض للمركزية الغربية، هو من منتجاتها بشكل من الأشكال، ونتيجة طبقات متراكمة من عمليات الإخضاع والتحديث الاستعماري، ولذلك فالأجدى، بدلاً من البحث عن «إصالة» غير غربية مفترضة، يستحيل الوصول إليها في الشرط بعد الكولونيالي، تفكيك الخطاب الغربي نفسه، و»تلغيمه» بأصوات وتجارب مقبلة من الهامش. يمكن اعتبار أدب الكاتب الهندي سلمان رشدي خير مثال على ذلك، والهدف آنذاك لم يكن إعادة مركزة المركزية، بل تكثير المنظورات والرؤى في عالم وحّدته الكولونيالية بالفعل، فصار من الممكن اللعب على معاييرها وقيمها، وإنتاج نصوص متعددة الدلالة، تكسر الاستقرار والوحدة المصطنعين للنص الإمبريالي.
التعامل مع نوبل وغيرها بمنطق التظلّم، يوصل بطريق مباشر إلى إعادة مركزة المركزية، وكأن المتظلمين يقولون: «نحن ضحاياكم. أرجوكم اعترفوا بنا في مؤسساتكم المكرّسة. وإلا ستكونون مركزيين». التناقض الطريف هنا أنه كيف يمكنك أن تطالب من تعتبرهم أصلاً مركزيين بكسر المركزية؟ ألا يعني هذا أن تجاوز المركزية نفسه بات من امتيازات المركز؟
«غير مهادن»
تقول الهيئة المانحة لنوبل إن سرد غورناه «يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار، ومصير اللاجئين العالقين بين القارات والثقافات». في الواقع لا يقول هذا شيئاً عن أدب الكاتب التنزاني بحد ذاته، فخطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والجزائري هواري بومدين مثلاً، كانت أيضاً «خالية من المساومة» دون أن يفكر أحد بالتأكيد بمنحهما جوائز أدبية. كما أن أي ناشط في منظمة غير حكومية مهتم بـ«مصير اللاجئين العالقين» وهذا أمر لا يستحق تكريم الأكاديمية السويدية.
ما يقوله بيان نوبل بشكل واضح، إن أيديولوجيا «التمكين» السائدة حالياً باتت مستوعبة بشكل كامل لدى الأكاديمية، التي كانت دوماً الأكثر حساسية للتقلبات السياسية والأيديولوجية عبر تاريخها، فهي من منح، إبان الحرب الباردة، منشقاً روسياً مثل ألكسندر سولجنيتسين أكبر جوائزها، بعد أن منحتها لأديب مرضي عنه سوفيتياً مثل ميخائيل شولوخوف، عند الانفراج الجزئي في العلاقات الأمريكية السوفييتية في منتصف الستينيات.
غورناه من جهته ليس أديباً مهمشاً للدرجة التي يتصورها البعض، فهو مقيم في أوروبا ويكتب بالإنكليزية، وأستاذ جامعي متخصص بما بعد الكولونيالية. وقد تمت ترجمته سابقاً للغات عديدة، خمس من روايته مثلاً ترجمت للألمانية ابتداءً من منتصف التسعينيات.
«السرد غير المهادن» بهذا المعنى يدل على إصرار صلب على جعل أصوات أدبية من هذا النوع جزءاً أساسياً من الأيديولوجيا الغربية السائدة عالمياً. وهذا مآل حزين لمشاريع النقد بعد الكولونيالي: بدلاً من تفكيك النص الغربي المركزي، نجح الأخير بدمج الأصوات التي حاولت تفكيكه في بنيته، بل صار نثرها اللغة الأساسية للبيانات، التي تكتبها أكثر المؤسسات الغربية مركزيةً و«بياضاً».
محاولات الانفلات
لكن هل توجد إمكانية فعلية للانفلات من النص المركزي الغربي؟ يذكّر هذا بالنكتة الفلسفية الشهيرة، عن أن كل من يحاول تجاوز هيغل سينتهي به الأمر هيغلياً مشوهاً. وبنقد جاك دريدا لكتاب ميشيل فوكو عن «تاريخ الجنون»: لا يمكنك أن تكتب تاريخاً للجنون بلغة العقل والمنطق والتأليف الأكاديمي، أي بلغة السجّان الذي اعتقل المجانين في مصحات الطب النفسي، والمحاولة لن تقود إلا إلى إعادة موضعة العقل والجنون في ثنائية جديدة، تؤكد مركزية العقل مرة أخرى. كما لا يبدو أن العودة لمشاريع دريدا نفسه عن التفكيك، التي ألهمت عدداً من مفكري بعد الكولونيالية، ستكون مجدية. فكثيرون جربوا، ومحاولاتهم ساهمت في إيصالنا لوضعنا الأيديولوجي الراهن.
ربما كان الأجدى تجاوز سؤال «المركزية» نفسه. وألا يركّز الأدباء والمثقفون على أن يكون سردهم مهادناً أو غير مهادن للاستعمار والرجل الأبيض. ففي أيامنا أسئلة جديدة، قد تكون أكثر ثراءً. ولعل من أهمها: كيف تكتب نصاً يطرح إشكاليات أكثر تعقيداً من أن تتمكن الأكاديمية السويدية أو غيرها من وصفه ببيان مبتذل؟
كاتب سوري