السرد ويقظة البدايات

حجم الخط
0

للسرد الحكائي، في تاريخ الأدب العربي، عراقة تتأصل بتأصل الإبداع في الوجدان والشعور والإحساس. فمهما اختلف النقاد حول البدايات الأولى، المرتبطة بالنشأة والتطور والامتداد، فإن هذا التباين يرمي بظلال قاتمة حول تاريخية الأدب العربي. فالمنزع نحو السبق الأدبي، يحفر شروخا لا تكف عن الامتلاء، خصوصا مع التيارات الفكرية الحديثة التي ظهرت، بداية القرن العشرين، في أوروبا، بما هي تنظر إلى الأدب كبينة، تتألف من عناصرَ خاضعة للإبدال والتطور.
بمعنى أن هذا الاختلاف البنيوي الكامن وراء نشأة البداية للنمط السردي، في الأدب العربي، يؤثر سلبا في مختلف الدراسات والبحوث، التي تسعى إلى تأصيل الجنس الأدبي، بل إلى تثبيت الهوية التاريخية والاجتماعية، والمشاركة الفعلية في البناء الحضاري للثقافة الإنسانية. إن هذا المنزع نحو السبق الأدبي سواء في الشعر أو القصة أو الرواية، ليس مؤثرا بتلك الحساسية المفرطة التي عولجت به هذه البدايات، وإنما يبقى مفهوم الجيل، حسب أدونيس، فاعلا ومساهما في تطوير الفكر والإبداع. فأيَا كانت المؤثرات الأيديولوجية، التي تغزو الجيل الثقافي والفكري، فإنه يظل متشبثا بقيمه ومبادئه التي ينفرد بها عن باقي الأجيال السابقة أو اللاحقة، وبها يكون الجيل بأكمله مساهما في بلورة جنس أدبي معين، وبعثه من رماد إرهاصاته الأولية كطائر الفينيق في الساحة الفكرية والأدبية.
وبالموازاة مع ذلك، فإن الجيل الثقافي يدفع المجتمع نحو التجريب بمختلف تلويناته، واستحضار مؤثرات أدبية وفنية تعمل على دمغ الخصوصية التي ينشدها؛ لتظل راسخة ومتأصلة في وجدان التاريخ، فبالنظر إلى هذه الظاهرة الأدبية، في امتداداتها التاريخية والجيلية، يتم تذويب هذا السبق الأدبي، ولا يعد أبدا حدثا استثنائيا ومبهرا، يستحق كل هذا الزخم الثقافي والفكري.
ففي نشأت القصة القصيرة العربية، كان شبه إجماع لكل من المستشرقين؛ الألماني كارل بروكلمان صاحب كتاب «تاريخ الأدب العربي»، والروسي إغناطيوس كراتشوفسكي، أن قصة «القطار» لمحمود تيمور الكاتب المصري المعروف، التي نشرت عام 1917؛ كانت أول سرد عربي قصير يحمل مواصفات فن القصة. وبناء على ذلك، جاء هذا الحكم، من طرف هذين المستشرقين، نتيجة لاحتكاكهما بالثقافة العربية، وبأهم رموزها عند زيارتهما، بداية العشرية الأولى من القرن الماضي، لمصر.

أقر سعيد يقطين بأن رواية «بديعة وفؤاد» للكاتبة اللبنانية عفيفة كرم، التي نشرت في نيويورك الولايات المتحدة الأمريكية 1908، كانت البداية الحقيقية للرواية العربية. في حين تؤكد جل الدراسات التاريخية، على أن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، التي ظهرت سنة 1914، كانت معها النشأة والتطور للسرد المطول في الثقافة العربية.

وكان في مقدمة هؤلاء العمالقة، الذين أغنوا الثقافة العربية بدراسات تاريخية وفلسفية جليلة، جرجي زيدان وأحمد السكاكيني والأب لويس شيخو وأحمد زكي وغيرهم كثير. علاوة على ذلك، فيجب عدم القفز على الدور، الذي لعبته الصحافة المصرية آنذاك، وفي مقدمتها جريدة «السفور» المصرية، التي كان لها قصب السبق في نشر قصة «القطار» لمحمود تيمور. وفيها ارتـُسمت معالم القصة القصيرة الفنية، من حوار وسرد ووصف وزمان ومكان. فالقصة، هنا، منذورة لهدفها وغايتها الاجتماعية، من خلال تعليم الفلاح المصري وانتشاله من براثن التخلف والأمية، عوضا أن يظل أسير السياط والضرب والقهر. فالرؤية الفنية، التي كانت تبوصل إبداع محمود تيمور، في أولى قصصه باللغة العربية، هي أن النهضة المصرية بحاجة إلى كل أهل البلد، بمختلف مشاربهم وأطيافهم، فلا يحق الحديث عن نهضة… والأمية تنخر المجتمع.
وفي الغاية ذاتها، يرتسم في الأذهان منطق السبق الأدبي، وبه يجرنا الحديث، هنا، إلى ما حدد به أدونيس الجيل الإبداعي، الذي أقره من خلال كتابه «زمن الشعر» بما يلي: ثمة شيء مشترك في مرحلة تاريخية معينة بين أشخاص قد يكونون من عمر واحد أو متقارب، ليخلص في الأخير إلى أن المشترك هو، التجربة التاريخية والفكرية والسياسية. فالقول في هذا الإطار العام، الذي وضع اللبنة الأولى في طريق تأسيس جنس تعبيري جديد، يهدف إلى تعرية الواقع من مساحيقَ مزيفة، يذهب مباشرة إلى المشترك المرحلي، الذي عاشه محمود تيمور بعد عودته من الديار الفرنسية، حيث أصبح الواقع المصري والعربي تحت رحمة المستشرقين الذين غزوا الثقافة العربية، وأسسوا فيها مذاهبَ وتيارات فكرية تسعى نحو انفتاح ثقافي شامل على الثقافة الأوروبية.
فما كان لمحمود تيمور، في خضم هذه الموجات المعرفية والفكرية الكاسحة، إلا أن يتأثر بشكل مباشر بالكاتب الفرنسي غي دي موبسان، كما أن مصطفى لطفي المنفلوطي، من خلال العديد من مؤلفاته الروائية والمسرحية؛ «ماجدولين» و»في سبيل التاج» و»وتحت ظلال الزيزفون» وغيرها، والمقتبسة من الأدب الغربي بعامة والفرنسي بخاصة، قد أذعن أخيرا لهذه التيارات الفكرية الحديثة الجارفة، والوافدة مع الاستشراق إلى الأدب العربي الحديث. وفضلا عن ذلك، فهناك من النقاد الحداثيين من يضع قصة «سنتها الجديدة» لميخائيل نعيمة أول قصة قصيرة ـ طبقا لمعاييرَ فنية مضبوطة ـ في اللغة العربية. تروي قصة «سنتها الجديدة» لنعيمة عن حدث دفن لصبية حديثة الولادة في إحدى غابات القرية، بدافع أن البنت لا تحافظ على إرث الأب. وإذا كانت المعايير والمؤشرات تدل على البناء القصصي بمواصفات حديثة من زمان ومكان وأحداث واسترجاعات واقتباسات دالة، فإن المنطق الذي يدبر هذا التباين والاختلاف حول قصب السبق الريادي هو، الجيل الثقافي، الذي استطاع أن يبلور فكرا عصريا من خلال أجناس أدبية حديثة ومنفتحة على ثقافة الآخر، وخاضعا للمؤثرات الثقافية والأيديولوجية نفسها.
سياقيا، لم تسلم الرواية هي الأخرى من هذا المطب، حيث أقر الباحث الأكاديمي سعيد يقطين بأن رواية «بديعة وفؤاد» للكاتبة اللبنانية عفيفة كرم، التي نشرت في نيويورك الولايات المتحدة الأمريكية 1908، كانت البداية الحقيقية للرواية العربية. في حين تؤكد جل الدراسات التاريخية، على أن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، التي ظهرت سنة 1914، كانت معها النشأة والتطور للسرد المطول في الثقافة العربية. وعلى غرار ذلك، كما أشار يقطين، أن على النقد العربي أن يجيل النظر في تاريخ نشأة الرواية العربية، خصوصا عندما ظهرت روايات سابقة زمنيا لرواية «زينب».
وفي ظل هذا المعطى أصبح من الواضح جدا أن تاريخ الأدب العربي، على الرغم من الدراسات العديدة الذي تناولته، يبدو ناقصا مادام لم يتم مسح شامل لنصوص البدايات في مختلف الأجناس الأدبية، وما قضية السبق الأدبي إلا ترف زائد، وليس تميزا إبداعيا أو فنيا؛ مادامت هناك نصوص ما زالت لم تتناولها أيادي الدارسين والباحثين.

٭ كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية