السعودية: مشكلة تدريس العلوم السياسية في الجامعات

حجم الخط
0

السعودية: مشكلة تدريس العلوم السياسية في الجامعات

د. مضاوي الرشيدالسعودية: مشكلة تدريس العلوم السياسية في الجامعات اسدل الستار عن عام 2005 في السعودية دون أحداث مهمة تستحق التعليق لولا بعض رسائل الحماقة التي تختص بها الاجهزة البيروقراطية التابعة للنظام. وجدت رسالة تافهة طريقها الي مكتبي عبر الفاكس. كانت هذه الرسالة مرسلة الي طالب سعودي انخرط في دراسة علم السياسة في احدي الجامعات الامريكية في المنطقة العربية. كان هذا الطالب قد طلب الالتحاق ببعثة دراسية بعد ان حصل علي قبول في هذه الجامعة ارسل طلبات الالتحاق بعد ان اعلن النظام السعودي تشجيعه للبعثات الدراسية الي الخارج وهو في غمرة الطفرة النفطية الحالية اذ شعر انه يحتاج الي توزيع بعض الفتات علي الشباب عله بذلك يمتص بعض البطالة ويكسب الولاء المرجو. زفت الرسالة هذه للطالب السعودي خبرا مؤسفا بالنسبة له اذ انها أبلغته قرار مسؤولي التعليم العالي بعدم ضمه الي لائحة المبتعثين بسبب اختياره لعلم السياسة في هذه الجامعة. فهذا الاختصاص حسب رسالة الملحقية الثقافية السعودية في سفارة خادم الحرمين الشرفين ليس من ضمن التخصصات التي يلحق دارسوها في البعثة . لذلك تجد الملحقية نفسها مضطرة لعدم صرف بعثة هذا الطالب الشاب. جاءت هذه الرسالة بعد حضور هذا الطالب النجيب عدة حلقات وعظ وارشاد تنظمها الملحقية هدفها تحذير الطلاب السعوديين من الانخراط في اي عمل طلابي جامعي كالانتخابات الطلابية والجمعيات الفكرية والثقافية التي ربما تشتم فيها الملحقية الثقافية السعودية شيئا من السياسة اذ ان العمل الطلابي الجماعي قد يكون بداية لعمل اكبر في المستقبل فهو مرحلة تدريب لخوض الحياة العامة في السنوات القادمة. ويأتي هذا الوعظ من باب قطع الطريق علي اي نشاط طلابي جماعي او تمرين للمستقبل. تأتي مثل هذه القرارات التعسفية لتخنق الطالب الجامعي حتي خارج حدود الوطن في جامعات عالمية معروفة ومتميزة بكثرة النشاطات الطلابية والتي تعتبر في مجال التعليم العالي كجزء لا يتجزأ من الدراسة الجامعية والتأهيل المستقبلي. مثل هذه الجامعات لا تحضر الطالب لخوض مجالات العمل فقط، بل تحضرهم لخوض الحياة بأكملها. منهجها عادة يتجاوز حفظ المعلومات وترديدها كالببغاء بل هدفها الانخراط في بناء الفرد والمجتمع وتفجير طاقة الشباب وامتصاص مواهبهم الخلاقة في اطار يخولهم ان يلعبوا دورا ايجابيا في المستقبل كل حسب طاقته وموهبته وقدرته.لم تنته قصة هذا الطالب عند هذه النتيجة. فرسالة تحريم السياسة بشكلها النظري من علي مقاعد الدراسة او بشكلها العملي من خلال الانخراط بالنشاط الطلابي تلتها رسالة اخري خلاصتها ان احد الامراء اوعز للملحقية ان تصرف لهذا الطالب بعثته علي حساب الامير الخاص ليس حبا بعلم السياسة بل لغاية في نفس يعقوب.ورغم ان هذا الطالب السعودي ليس بمحتاج لبعثة النظام او بعثة الامير الا ان الامر يتطلب وقفة تأمل وتعليق. فكما تقوض قرارات الدولة الصادرة عن المؤسسات من قبل قرارات الامراء في مجال القضاء حيث تصدر احكام مختلفة من قبل القضاة ويعاد النظر فيها من قبل ولاة الامر بالجملة نجد ان التعليم العالي يعاني من نفس عملية المد والجزر.فتحرم الجهات المختصة بالبعثات علم السياسة ويعيد الامير فيحلله من اجل كسب الولاء من قبل هذا الطالب الشاب عله يخلق في نفسه بذور شخصنة العلاقة بين الحاكم والمحكوم اذ ان الطالب هذا ما زال صغير السن قابلاً للبلورة والتحكم به من قبل طويل العمر الذي بعمله هذا الخيري يمسك بمفتاح قلب الشاب ربما الي الابد فيدين له بالولاء والسمع والطاعة. وان تعود الشباب علي هذا النوع من العلاقة في السنوات الاولي من حياتهم نجدهم يتمرسون في فن الولاء في المستقبل اذ يصبح الخنوع مقابل البعثة المشخصنة بداية لحياة يتمرغ فيها الصغار والكبار في مثل هذه العلاقات التي تعم الفرد علي تجاوز المؤسسة وعدم احترامها لان القرار الاول والاخير هو بيد الامير.يأتي تحريم السياسة من قبل الساسة في مرحلة يصور النظام نفسه وكأنه قد بدأ مسيرة الاصلاح التاريخية التي ستنقله نقلة نوعية من تخلفه وتخلف سلطته المطلقة الي مرحلة الحوار والمشاركة والانتخابات المحدودة واستشارة النساء ربما من علي شرفات خاصة يطلون بها علي اعضاء مجلس الشوري في مبناه الفخم. يظهر النظام نفسه اليوم وكأنه يعيش فرحة تتويج لوثر العرب الذي سينسف الخطاب الديني السابق المتطرف والعنيف الذي شوه صورة الاسلام وسيبدله بخطاب النهضة المرجوة الذي يمكن تعليقه علي مباني الدولة كما علق لوثر معلقته علي كنيسة ورتن بورغ. والنهضة الحالية لا تقف عند حدود الدين بل تتجاوزه لتصل الي المجتمع وموروثاته القبلية المتخلفة فالنظام اليوم يحتار بين نمط زينب الغزالي ونمط هدي الشعراوي خاصة في مجال تعامله مع قضية المرأة والتي عرفتها القوي الخارجية علي انها مشكلة قائمة تحتاج الي حل لا يدري النظام كيف يتحول من الاقصائية الي المشاركة فهو يتخبط بين هذين النمطين ولكنه سيعلن مستقبليا انه وجد النمط الخاص به والذي يراعي الخصوصية المحلية وكالعادة هذا النمط لن يتعارض مع الشريعة مرددا بذلك الموال التاريخي الذي قد يمل المرء سماعة من جديد وعند كل مفترق طريق. اما اقتصاديا فحدث ولا حرج اذ ان سياسة الباب المفتوح قائمة علي قدم وساق. يظهر النظام اليوم انه سبق آدم سميث ورأسماليته اللامتناهية بل قد تعداها الي ماهو ابعد من ذلك حيث شرعن استغلال اليد العاملة الاجنبية المعدومة الحقوق وذات الاجر الرخيص ولم يكتف بذلك بل انه سمح للمجتمع باستغلال هذه اليد العاملة عن طريق صفقات استيراد هذه العمالة فخلق بذلك شريحة اجتماعية تعتاش علي استغلال الآخر الآتي من وراء البحار. فرخص استيراد البشر تصبح كوبون بيد هؤلاء المتسلطين المستوردين. واليوم يبيع النظام اسهما في شركاته والشركات الخاصة والبنوك من باب الانفتاح نفسه.رسالة الملحقية الثقافية جاءت واضحة فهي تؤكد الخلفية الحقيقية لواقع الاصلاح المزعوم. نعم هناك تغييرات علي صعيد الخطاب الديني علي الاقل اعلاميا وربما ليس علي مستوي التعليم الفعلي في الجامعات والمدارس بعد وهناك مجتمع قرر ولي امره ان ينفتح وهناك اقتصاد مفتوح . كل هذه النقلات والتي تأتي من باب ترقيع الثوب السعودي لا تحتاج بنظر مؤسسات التعليم العالي الي ابتعاث الطلاب الي الخارج لدراسة علم السياسة وادارة الدولة ومؤسساتها. فالسياسة وعلمها حرام يجب اجتنابه في خطط التنمية الفكرية التي يتبناها الساسة.لماذا يا تري يخاف النظام السعودي من السياسة ودراستها؟ هل لانها ستؤدي الي تخريج دفعة جديدة من العاطلين عن العمل في بلد يحرم الانخراط بالشأن العام علي الجميع ما عدا ولاة الامر. دراسة السياسة في بلد لا يعترف بمبدأ المشاركة السياسية وتداول السلطة والانتخابات الحرة وحق التجمع وحرية الرأي ربما تكون عبثا حقيقيا وهدرا للاموال والثروة. ولكن لا يمكن ان يكون هذا هو السبب الحقيقي والذي قد يبني علي نظرية اقتصادية بحتة.فهناك عدة اختصاصات تدرس في الجامعات المحلية كفيلة هي ايضا بتخريج عاطلين عن العمل. خذ دراسة التاريخ مثلا فهو اليوم وسيلة للتضليل وليس للاستنارة في دولة تعتبر النسخة الرسمية من تاريخ الدول وثيقة مقدسة لا تقبل النقاش او الجدل. فحتي هذه اللحظة لم تقفل اقسام دراسة التاريخ المضلل هذا بل هي تتمتع بحيز كبير من الاحترام خاصة وانها متخصصة في انتاج اساطير النظام المتعددة والتي لا مجال لتعدادها هنا.سر تحريم السياسة يقبع في ما ستفتحه هذه الدراسة من ابواب يصعب اغلاقها. ترعب السياسة النظام السعودي لانها تطرح بشكل واضح موضوع السلطة باشكالها المختلفة من سلطة مقيدة الي سلطة مطلقة. يتعلم الطالب في قسم السياسة معني ممارسة القوة والسيطرة كذلك يتعلم كيف تقهر القوة المطلقة بارادة الشعوب. يتعلم طيفا كبيرا من تجارب الامم وينفتح ذهنه علي ممارسات الشعوب في السابق والحاضر يدرس الطالب عادة النظرية مقترنة بالممارسة فيكشف الستار عن الخطاب الدعائي المضلل بعد ان يمتحنه عبر الممارسة.ينتقل الطالب من نظريات مثالية للمدينة الفاضلة مارا بفلسفة الحكم وسيادة القانون يستعرض تاريخ العدالة الاجتماعية منذ عصر اليونان مرورا باطارها الاسلامي منتهيا به المطاف عند فلسفتها في العصر الحديث. يتعلم الطالب مفهوم العقد الاجتماعي ليس فقط عند روسو بل عند الماوردي والفارابي وغيرهم من اعلام الفكر السياسي. اهم من هذا يطلع الطالب علي معني الشوري الاسلامية ويقارنها بمفهوم الديمقراطية الغربية لا يدرس الا التجارب الانسانية والتي تقارن مع بعضها البعض من باب الاطلاع علي الموروث الحضاري البشري وليس ذلك المحدد بجغرافية معينة طارئة علي التجربة الانسانية.ينتقل طالبنا الي مفهوم فصل السلطات والتي قد تبدو غريبة عجيبة لمن كانت مخيلته وفكره من نتاج سعودي محلي حيث تحصل عملية دمج قبيحة للسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. يفهم الطالب ان المجتمع يقوي بالمؤسسات التي تمثله ويقوي الفرد من خلال هذه المؤسسات. يتجول الطالب في موسوعات الشعوب التي تأبي الخنوع والظلم فتنظم نفسها لصد العدوان والذي عادة يأتي من الشرائح المتسلطة المستأثرة بالقرار والمجندة للشعب في خدمتها وحدها وليس خدمة وطنها او مصلحتها الجماعية. يتعلم الطالب الفرق بين الاصلاح كشعار اعلامي وممارسة فعلية يميز بين الحملات الدعائية وشركات تلميع الصورة من جهة والاصلاح الحقيقي الذي يأتي بعد عملية حفظ يمارسها المجتمع علي المتسلط. يتعلم الطالب تفكيك ابجدية القمع واستبدالها بأبجدية حقوق الانسان واحترام الحقوق. كذلك يتعلم مفهوم المسؤولية والتمثيل والتفويض. كل هذا يجعل علم السياسة من المحرمات السعودية وكذلك ممارستها في المجال الطلابي داخل حرم الجامعة. لكن النظام يسمح بأن يتحول الطالب الذي يدرس في الخارج علي نفقة الامير او النظام (حيث لا فرق بين الاثنين) الي بوق اعلامي يضاف الي الفضائيات المملوكة من قبل الدولة او حتي الملتحقين بها عن طريق المصاهرة او الولاء. لا يتردد النظام في تجنيد المبتعث لتلميع صورته هو من خلال اولا دراسات يقوم بها هؤلاء تبين للعالم مدي تطور المملكة وحداثتها حيث تتكدس اطروحات الدكتوراة التي تمجيد مسيرة الخطط الخماسية منذ السبعينات وكذلك مشاريع التنمية كتوطين البدو وترويضهم كذلك المشاريع الزراعية الهادفة الي الاستكفاء الذاتي والخطط والمدن الصناعية التي تصبو الي التقليل من الاعتماد علي سلعة نفطية واحدة وانجازات شعارات العودة التي تتبخر مع آخر الاحصاءات وانجازات القطاع التعليمي حيث تكدس هذه الاطروحات ارقام المدارس والجامعات وتستشهد بآخر معدلات الانخراط في التعليم بكافة مراحله الي ما هنالك من ارقام لا تساوي قيمة البرامج الحاسوبية التي جمعتها ورتبتها في جداول يتجاوز طولها عدة مجلدات. مثل هذه الدراسات العلمية حلال يستحق الصرف عليه عن طريق البعثات التي تبعث روح الحياة في الحقيقة القائمة علي الارض والتي يعرفها الجميع. وتمر مثل هذه الدراسات علي لجان التقييم والتي يهمها شأن الطالب الاجنبي الذي يدفع علي الاقل ثلاثة اضعاف ما يدفعه الطلاب المحليون.مثل هذا الدخل يمثل رصيدا اضافيا تعتمد عليه جامعات فطمتها حكوماتها من الدخل في السنوات الماضية خاصة في بريطانيا واوروبا وليس لها الان سوي ما يجلبه الطالب الاجنبي والسعودي خاصة من مدخول يساعدها في محنتها الاقتصادية الحالية. قرر ساسة المملكة التعويض عن خسارة هذه المراكز التعليمية عن طريق تصدير طلابهم وهم بذلك ينعشون المراكز الثقافية الخارجية من باب الانفتاح التعليمي. هذا الانفتاح لم يلحق طالب السياسة المذكور اعلاه لان تخصصه حرام لا يحلله الا حساب الامير الخاص. هذا الحساب كفيل بترويض النفس اليانعة الصبية رغم دراستها لفن السياسة فيظل الريال اشد بأسا من القلم.ہ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية