عاد وزير الخارجية ورئيس الوزراء الإسرائيلي البديل يئير لبيد، وطرح مشروعه الخاص «الاقتصاد مقابل الأمن» مكررا الحديث عن «سلام اقتصادي شامل» وذلك في لقاء خاص، الخميس الماضي 23/12/2021، مع طاقم «معهد دراسات الأمن القومي» الذي يعتبر أهم مؤسسات التفكير الاستراتيجي في الدولة العبرية. وصرّحت وزيرة الداخلية الإسرائيلية، أييليت شاكيد، خلال زيارتها للإمارات، بأن حكومتها ترفض إقامة دولة فلسطينية، وتتمسّك بالمستوطنات، وترى أن الأمر الوحيد الذي يمكن الاتفاق عليه هو «السلام الاقتصادي».
وسبقهما رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي كرر في أكثر من مناسبة: «سنأتي بالسلام الاقتصادي.. لن ننسحب ولن نسلم أراضي، دولة فلسطينية ستغرقنا باللاجئين» وقبل أن يتولّى منصبه الحالي كان يزيد «هناك دولتان فلسطينيتان واحدة في غزّة والثانية في الأردن ولا حاجة لدولة ثالثة» ولم يعد، في الفترة الأخيرة، إلى هذه الإضافة حفظا للعلاقة مع الأردن.
لقد طرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في لقائه هذا الأسبوع، بيني غانتيس، وزير الأمن الإسرائيلي والمسؤول عن العلاقة مع السلطة، قضايا كثيرة وفي مقدمتها «الأفق السياسي» لكن أُذن الوزير الإسرائيلي كانت مصغية فقط للأمور المتعلّقة بالاقتصاد وبالأمن. ولو طرحت في الجلسة 30 نقطة (مثلا) فإن معظمها غير متفق عليها ولن تنفّذ، وما سيجري تحويله إلى المسار العملي، هو تحديدا النقاط الاقتصادية، التي من الممكن الاتفاق عليها، وبالتالي من الممكن ان يتحوّل مشروع «السلام الاقتصادي» بحكم التفاهمات العينية إلى واقع ملموس، حتى لو أعلنت القيادة الفلسطينية ليل نهار أنّها تعارضه، وهي فعلا تعارضه، لكنّها قد تنجرف نحوه بقوّة الدفع الأمريكي والعربي والدولي والإسرائيلي، وبفعل ضروريات حماية الاقتصاد الفلسطيني من الانهيار. وعليه يجب الانتباه إلى أنّ غياب استراتيجية فلسطينية بديلة وفعّالة سيؤدّي عاجلا وليس آجلا، إمّا إلى فوضى عارمة، أو إلى اندماج، معلن أو غير معلن، بمشروع السلام الاقتصادي مصحوبا بتشديد القبضة الأمنية على كل المستويات. تعتقد معظم النخب الإسرائيلية (ليس كلّها) بأن الأمر الوحيد الواقعي والممكن هو «السلام الاقتصادي» إمّا لأن بعضها لا يريد أصلا حلّا سياسيا، أو لأنّ البعض الآخر يرى أنّ الظروف غير مواتية وناضجة لمثل هذا الحل. في كلتا الحالتين أصبح مشروع «السلام الاقتصادي» يحظى بإجماع، ولو طرح للتصويت في الكنيست لحصل على أكثر من مئة صوت (من أصل 120).
النمو الاقتصادي لا يستهوي الشعب الفلسطيني ويخفّف من غليان نضاله ضد الظلم والإذلال، ولا يردع الإسرائيليين عن ممارسة وحشيتهم المعهودة
نظرية السلام الاقتصادي
لم تخترع إسرائيل مفهوم «السلام الاقتصادي» فهو قائم منذ ثلاثة قرون على الأقل، ونجده حتى عند أهم فلاسفة العصر الحديث إيمانويل كانت، الذي اعتبره واحدا من الأرجل الثلاث، التي يقوم عليها السلم العالمي. وتنطلق نظرية السلام الاقتصادي، التي تسمى أيضا «السلام الرأسمالي» و «السلام التجاري» من مقولة إن مجتمعات السوق أقل ميلا إلى الدخول في صراعات عنيفة بين بعضها بعضا، لأنها ترتبط بعلاقة اعتماد متبادل مربحة للطرفين، ولأن خسارتها من الحرب والمواجهة العنيفة تفوق أي ربح ممكن. ويرى أنصار الليبرالية الاقتصادية أنه كلّما ارتفع الرخاء زادت الخسارة من الحرب، وبالتالي قلّ الاستعداد لخوض غمارها. لكن الأبحاث الإمبيرية لم تأت بنتائج قطعية بصحة فرضية «الرخاء يمنع الحرب». فقد دلّت دراسات قياس العلاقة بين الاعتماد الاقتصادي المتبادل من جهة، وفرص الحرب من جهة أخرى، على نتائج متباينة وحتى متناقضة، فمنها ما وصل إلى نتيجة أن هناك علاقة عكسية، ومنها ما استنتج أن العلاقة طردية، وذهبت أبحاث أخرى إلى أنّ العلاقة مركّبة، وأنّ ما يتفوّق على مبدأ الاعتماد الاقتصادي المتبادل هو، الاعتقاد بأن المكسب من الحرب والمواجهة يزيد عن الخسارة.
فلسطين والنظرية
المشكلة في تنظيرات الليبرالية الاقتصادية هي أنها تختزل الإنسان إلى «كائن اقتصادي عاقل» برسم الواقع، أو ما يجب أن يكون عليه هذا الواقع. وهي عموما تتجاهل أن حسابات الربح والخسارة ليست اقتصادية فحسب، فهناك حسابات التوق للحرية الفردية والجماعية، والإحساس بالظلم والإذلال والرغبة في تحقيق الذات بلا قيود خارجية، وهي في الكثير من الحالات مثل الحالة الفلسطينية أهم بكثير من الاعتبارات الاقتصادية على أهميتها. وحتى لو أخذنا نظرية «السلم الاقتصادي» كما هي، نجدها بداهةً وبمنظور النقد المحايث من الداخل، غير قابلة للتطبيق في الحالة الفلسطينية، لأن فلسطين ليست دولة، وهي تحت احتلال وشعبها يسعى لإقامة دولة. وكل تنظيرات السلام الاقتصادي تستند إلى أمثلة العلاقة بين دول مستقلّة، وشعوب حقّقت طموحاتها القومية الأساسية، وقد تختلف على بعض التفاصيل. كما أن فلسطين ليست في أوروبا، حيث أجريت الأبحاث وطُوّرت المفاهيم العامة بهذا الشأن، في سياق التشخيص والتحليل والتنظير للحالة الأوروبية.
في عام 2000، عشية اندلاع الانتفاضة الثانية، وصل الارتفاع في الناتج الإجمالي المحلّي في الضفّة والقطاع إلى نسبة 9%، وفي إسرائيل إلى نسبة 7%، وهما أعلى نسبتين في العقود الأخيرة، ما يتناقض بوضوح مع أسس نظرية «السلام الاقتصادي». الاستنتاج واضح وهو أنّ النمو الاقتصادي لم يمنع المواجهة، فهو لا يستهوي الشعب الفلسطيني ويخفّف من غليان نضاله ضد الظلم والإذلال، ولا هو يردع آلة القمع الإسرائيلية عن ممارسة وحشيتها المعهودة.
يقودنا التحليل المنطقي إلى أن السياسة تغلب الاقتصاد، حين تكون هناك قضايا سياسية ملتهبة وملحّة، ومهما تطوّر الاقتصاد فهو لن يحلّها. هذا لم يمنع من الوقوع في الأوهام، مثل المسار الذي سوّقه رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق سليمان فياض، وأطلق عليه الكاتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، تسمية «فياضيزم» ويتلخّص بأن جلب الاستثمارات وتطوير الاقتصاد وبناء المؤسسات وتشديد نظام المراقبة والمحاسبة، يضع الأسس لإقامة دولة فلسطينية مستقلّة. لقد فشل هذا المشروع فشلا ذريعا، ليس لأن الدكتور سليمان فياض لم يكن قادرا على حمل الثقل الاقتصادي والإداري، فهو بارع في كليهما، بل لأنّه لم يحصل التقدم شبرا واحدا في طريق التحرر من الاحتلال وبناء الدولة. تجربة سلام فياض هي دليل إضافي على أنّ نظرية «السلام الاقتصادي» غير قابلة للتطبيق فلسطينيا، حتى بعد إدخال تعديلات وتحسينات عليها، من قبيل التأطير لعلاقة بين دولة مستقلة (إسرائيل) ودولة في طور النشوء (فلسطين) وهذا، كما توهّم البعض، قريب من الحالة «النظرية».
اليأس هو الحل
تسعى إسرائيل إلى تطوير مفهوم السلام الاقتصادي ليتناسب مع مشروعها الكولونيالي، وهي تخشى من أنّ المطامح القومية السياسية للفلسطينيين في إقامة دولة مستقلّة تتغلّب في المحطّات الساخنة على أي اعتبار اقتصادي. ويعتقد من يعتقد في إسرائيل بأن نموّا اقتصاديا جدّيا سيجعل الفلسطينيين يلامسون «الرخاء» ويدفعهم إلى الاعتقاد بأنّهم سوف يحصلون، اقتصاديا، على أكثر إن هم تحرّروا من احتلال، وبلغة أخرى فإن البورجوازية الفلسطينية لن تكتفي بإدارة اقتصاد تحت الاحتلال ولها مطامح بدولة مستقلّة تفتح آفاق التطور الاقتصادي عليها أكثر بكثير. يُطرح مشروع «السلام الاقتصادي» بديلا عن الحل السياسي، وليس تمهيدا له. وتخشى إسرائيل أن يبقى الطموح الفلسطيني لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة عائقا لنجاح هذا المشروع. ما الحل إذن؟ بالمنظور الإسرائيلي، الحل هو اليأس، وبما أن الفلسطينيين لن يتخلّوا عن الرغبة في الاستقلال، فعلى الأقل يمكن زرع اليأس في نفوسهم، وإقناعهم بمقولة أن الخلاص السياسي مستحيل وعليهم بالخلاص الاقتصادي. أمّا من ناحية المشاريع الاقتصادية العينية، فإن إسرائيل ترفض بعناد أي مشروع ينسجم مع إقامة الدولة المستقلة، مثل الطريق السريع بين غزّة والضفّة، وتغيير النظام الجمركي الجائر، وإقامة ميناء ومطار وتفكيك الحواجز ورفع القيود عن حريّة التنقّل وغيرها. وتصر على مشاريع تكريس الوضع القائم. ويرى المستثمرون الأجانب كل هذا ويصلون إلى استنتاج منطقي وهو أن مشاريع «السلام الاقتصادي» معدّة للمحافظة على الوضع القائم، الذي قد ينفجر في أي لحظة لتذهب استثماراتهم أدراج الرياح. وعليه وللمفارقة فإن الحديث عن السلام الاقتصادي يردع، ولا يشجّع الاستثمار الاقتصادي.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48
وضع دولي جديد بقيادة بايدن سيقود لوقف تدخل إيران وضم حماس لمنظمة التحرير وإقامة دولة فلسطينية مستقلة بحدود 4 حزيران 1967 ولو منزوعة سلاح وبتبادل أراضي وإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي وعودة مليوني نازح 1967 من الأردن للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وستنتهي المشاكل الاقتصادية بفلسطين والأردن، بل إن تدفق الاستثمارات على فلسطين المستقلة سيحدث نهضة عمرانية 10 سنوات تتطلب تشغيل معظم شركات مصر والأردن وعمالة كثيفة، كما أن استتباب الأمن والسلام سيتيح لإسرائيل استبدال مليون عامل أجنبي بعمال عرب.