الحضارة الأوروبية سخّرت القوة الصناعية للأغراض العسكرية، الأمر الذي أفضى إلى حرب عالمية رهيبة، ذهب ضحيتها ما يقرب من تسعة ملايين نفس بشرية، قتلوا في معركة الإنسان ضد الإنسان. وكوارث النهاية دفعت إلى إنشاء عُصْبة الأمم، عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919، في محاولة لإيجاد سلطة دولية تدير العلاقات الأممية.
وكان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون يرى أن السلام لا يمكن أن يستتب إلا بإيجاد مؤسسة دولية، تقوم بتنظيم الفوضى، وتعالج النزاعات بعيدا عن الصفقات الدبلوماسية الثنائية السرية. ولكن الدول بقيت سجينة مصالحها الذاتية، حتى أن الولايات المتحدة قررت عدم الانضمام للمؤسسة التي أحدثها الحلفاء، كجزء من التسوية السلمية، وأفقد التناقض بين فكرة الأمن المشترك، والعلاقات الدولية مصداقية عُصبة المنتصرين، وجعلها تجربة فاشلة بجميع المقاييس.
وكان الشعار الشعبي العاطفي المتداول أثناء الحرب العالمية الأولى «لن يتكرر هذا أبدا» مجرد طمأنة واهية، فإثر الحرب الشاملة التي عبأت فيها الدول الكبرى المشاركة جميع طاقات شعوبها الممكنة، وعقد المنتصرون بانتهائها اجتماع فرساي لحل القضايا المباشرة، التي خلفتها، وأساسا مسألة التعامل مع الدول المهزومة، والحد من انتشار الأسلحة، والتفاهم في جعل نشوب حرب ثانية أمرا مستحيلا في المستقبل. وبعد عشرين عاما من معاهدة فرساي نشبت حرب ثانية أكثر تدميرا من الأولى، وذات أبعاد عالمية أوسع نطاقا، وأبعد أثرا من سابقتها.
تخرج الولايات المتحدة إثر هذه الحرب دولة نووية عظمى، بعد تفجير القنبلتين النوويتين في اليابان، وما خلفه ذلك من عار إنساني عابر للتاريخ، وأصبحت دولة دائنة ومركز الاقتصاد العالمي، مستفيدة من الأوضاع الاقتصادية لدول أوروبا، التي كانت في حالة دمار. وأطاحت هذه الحرب ماليا وعسكريا بالإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، وتم إنجاز هيئة أممية ثانية، ومع ذلك تفاقم عنف الغاب ووقع استخدام «الأمم المتحدة» للسيطرة على بقية الدول، واستباحة مقدراتها وإجبارها على الخضوع للغرور السياسي والاقتصادي. وإلى الآن لا تتعامل منظمة الأمم المتحدة مع قضية الدول الأعضاء المعتدية، ولا تكبح جماحها، وهي التي أنشئت بدورها لغرض منع وقوع الحروب، والدفع باتجاه السلم العالمي.
ومع اشتداد أزمة الحضارة القائمة، التي طوعت الديمقراطية الليبرالية، وجعلتها شكلا من أشكال التدجين الجماهيري، تدفع بها انتهازية النخب السياسية والثقافية والمالية، بفعل سياسات الاستعمار الجديدة، كان إخضاع الشعوب الأجنبية والسيطرة على مواردها، من أبرز وجوه الإمبريالية التوسعية، وغدت السبب الأساسي للصراع في السياسة الدولية، والأطماع التي نتجت عن الاستهلاك المتدني، ضمن المجتمعات الرأسمالية المتطورة، دفعت الرأسماليين إلى البحث عن أرباح أعلى «في ما وراء البحار»، الأمر الذي أصبح ديناميكية تنافسية بين الدول، والعامل المساعد للنزعة العسكرية، ما أفضى إلى الحروب التي اعتقد كثير من المثاليين أوائل القرن العشرين حتى أواخر الثلاثينيات منه أنهم سيمنعون حدوثها.
العالم ما بعد كورونا لن يتغير كثيرا، وخطورة هذه الظاهرة على النمو الاقتصادي ستكون فادحة في المدى المتوسط والبعيد
بنية النظام العالمي تفترض أن السلوك الذي يعتبر عقلانيا في المدى القصير، يمكن أن يكون «نظاما يجهز على نفسه بنفسه في المدى الأطول»، ومبادئ الحرية الاقتصادية والتجارة الحرة، والاستراتيجيات الاندماجية وفتح الأسواق لم يكن من شأنها أن تحقق السلام تماما، مثلما أثبتت الحرب العالمية الأولى والثانية استحالة تحقيق تعاون سلمي بين دول متنافسة. والولايات المتحدة والصين في مواجهة اقتصادية حقيقية اليوم، وهي أقرب أن تتطور إلى صراع عسكري مباشر في أي لحظة، خاصة بعد أزمة وباء كورونا الذي يتبادلان فيه الاتهامات، وتحتد بينهما لهجة التصعيد. ومثل هذه السياقات العالمية المضطربة، تجعل الأنماط التبريرية تستنفد نفسها، وسخافاتها الفجة صارت مكشوفة لا يمكن إخفاؤها. وقد أبانت الجائحة العالمية عن هشاشة النظم الاجتماعية لدى معظم الدول، وزادت في اتضاح عدم تجذر المبادئ الكونية التي شيدها الفكر الإنساني، ونادى بها الفلاسفة والمفكرون على نحو تلازمها مع الطبائع الإنسانية، مثلما كشفت عن ضعف الدول وتهافت اتحاداتها المعلنة، وغياب نُظم الحماية الاجتماعية التي بإمكانها استيعاب اللحظات الصعبة من التاريخ، بمثل غياب استراتيجية عالمية في التعامل مع خطر يهدد الإنسانية جمعاء.
هل فعلنا شيئا سوى أن استبدلنا الأشكال البالية للنظم الاستعمارية، بأشكال جديدة أكثر دهاء في الإخضاع والهيمنة؟ تساؤل تشومسكي يلخص النظام السياسي الأمريكي في فترة الحرب الباردة، وبعد اختفاء الاتحاد السوفييتي عن المسرح العالمي والمنافسة الدولية، حيث يحفل بمدونات شاهدة على حوادث الإرهاب والعدوان، وإطاحة الأنظمة والحروب الاقتصادية، وغيرها من الجرائم التي «أرعبت حشودا واسعة من البشر». ونمط السياسة الأمريكية استمر بدون تغيير، والعالم ما بعد كورونا لن يتغير كثيرا، سوى أن خطورة هذه الظاهرة على النمو الاقتصادي ستكون فادحة في المدى المتوسط والبعيد، كما ستتضح آثارها الاجتماعية والسياسية على النظام الليبرالي، لما خلقه من تفاوت بين قلة تمتلك الثروة والنفوذ، وكثرة لا تمتلك شيئًا على الإطلاق. وهي واقعية تاريخية ستزداد تفاقما، وسيحاول الاقتصاد الرأسمالي هيكلة نفسه من جديد، رغم تعرية أسوأ الجوانب فيه، وافتضاح المعسكر الذي يتبنى مبادئه، والذي غلبت عليه الشهوة الجامحة للسيطرة والافتنان المرضي، بامتلاك الأسلحة عالية التقنية، وعدم احترام الثقافات المغايرة، والأنانية المفرطة والمنطق الأعوج للمصالح الجيوسياسية التي تُظهر استخفافا بالغا بأرواح البشر. فأين هي القيم الليبرالية الرفيعة والمعايير الحضارية المهيبة؟
كاتب تونسي