نواكشوط –«القدس العربي»: على نفس خطى الحكام الجدد في مالي وبوركينافاسو والنيجر، وبالخطاب ذاته المؤسس على حماية السيادة الوطنية، طالب الرئيس السنغالي الشاب بشيره جماي فاي فرنسا بسحب جنودها من التراب السنغالي، بينما ألغى الرئيس التشادي الشاب محمد إدريس ديبي، اتفاقية التعاون العسكري بين تشاد وفرنسا داعياً فرنسا لسحب كامل جنودها من التراب التشادي.
وبهذه التطورات تفقد فرنسا وجودها العسكري والاستخباراتي في معظم بلدان غرب إفريقيا ضمن هبوب متواصل لرياح طاردة للقوة الاستعمارية السابقة، متجهة في غالبها للشراكة مع روسيا وتركيا “البديلين الأقل خطورة”.
وتزامنت هذه القرارات مع جولة لنائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، قادته رفقة وفد رفيع إلى النيجر، وبوركينا فاسو، ومالي، الدول الثلاث التي طردت القوات الفرنسية من أراضيها، وتحالفت مع روسيا أمنياً وعسكرياً واقتصادياً وتجارياً.
ولكي يظهر الرئيس السنغالي خطورة الآثار التي خلفها الاستعمار الفرنسي داخل بلاده، فقد أحيا، بحضور عدة رؤساء أفارقة، بينهم الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي، الذكرى الثمانين للمذبحة التي نفذها الجيش الفرنسي عام 1944، في معسكر تياروي الواقعة بضاحية داكار الشرقية، ضد مجنديه السنغاليين أثناء تجمعهم للمطالبة برواتبهم بعد عودتهم من الحرب العالمية الثانية حيث كانوا يقاتلون مع القوات الفرنسية.
وفي خطوة جديدة نحو المصالحة مع التاريخ، اعترف الرئيس الفرنسي ماكرون بأن مذبحة تياروي وقعت بالفعل يوم في 1 ديسمبر / كانون الأول 1944، وهو ما زاد مطالبة المؤرخين الأفارقة بفتح أكبر للوثائق والأرشيف الفرنسي للاطلاع على ما ارتكبه المستعمر الفرنسي من جرائم ومآس في حق الأفارقة.
وأعلن الرئيس السنغالي قراره الخاص بضرورة سحب الوجود الفرنسي من السنغال في تصريحات لوكالة الصحافة الفرنسية، أكد فيها “أن فرنسا ستضطر إلى إغلاق قواعدها العسكرية في السنغال”، مضيفاً “أن وجود هذه القواعد يتعارض مع سيادة بلاده”.
وأكّد فاي أنه “يتعيّن على السلطات الفرنسية أن تفّكر في إقامة شراكة مجرّدة من الوجود العسكري، كتلك التي تربطنا مع الكثير من الدول الأخرى”.
وتزامن القرار السنغالي مع قرار مماثل لكنه أشد وقعاً على فرنسا، اتخذه الرئيس التشادي محمد إدريس عبر بيان تلاه وزير خارجيته وعبر خطاب وجهه للشعب، وأعلن عن إنهاء اتفاقية التعاون في مجال الدفاع الموقعة مع الجمهورية الفرنسية، والتي جرى تعديلها بتاريخ 5 أيلول/ سبتمبر 2019.
وأعلن الرئيس ديبي “أن هذا القرار، الذي اتخذ بعد دراسة معمقة، يمثل نقطة تحول تاريخية، إذ ترى الحكومة أنه بعد مرور 66 عاماً على إعلان جمهورية تشاد، حان الوقت لتشاد لتأكيد سيادتها الكاملة وإعادة تحديد شراكاتها الاستراتيجية بما يتماشى مع أولوياتها الوطنية”.
وتعتبر هذه الخطوة تحولاً محورياً في السياسة الخارجية لتشاد، حيث تشير إلى نيتها إعادة تقييم تحالفاتها الاستراتيجية وإعادة تحديد موقعها في النظام العالمي.
وكانت تشاد، الدولة غير الساحلية الواقعة في وسط إفريقيا، مستعمرة فرنسية منذ أوائل القرن العشرين، وظلت تحت الهيمنة الفرنسية حتى استقلالها في عام 1960.
ورغم استقلالها، استمرت العلاقات الوثيقة بين تشاد وفرنسا في المجالات الدبلوماسية والعسكرية؛ ولعبت فرنسا دوراً مركزياً في إدارة الشؤون الداخلية لتشاد وتشكيلها وفق صالحها، حيث تدخلت عسكرياً في عدة مناسبات خلال فترات الصراعات والاضطرابات الداخلية، مما رسخ مكانتها كفاعل خارجي رئيسي في أمن تشاد.
ولكن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات ملحوظة في التوجه التشادي نحو الشراكات الدولية؛ فأصبح التركيز على تعزيز الاستقلالية الوطنية والدفع نحو تنويع التحالفات أولوية واضحة؛ وهو ما أرجعه الخبراء “للتطورات الأمنية المتغيرة في منطقة الساحل، بالإضافة إلى حضور قوى دولية جديدة مثل روسيا”.
وكانت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لنجامينا، في يونيو 2024 بمثابة إشارة واضحة لاهتمام تشاد بتوسيع خياراتها في التعاون الأمني، وهو ما يعكس نمطًاً أوسع في منطقة الساحل، حيث تسعى الدول إلى تقليل اعتمادها على التحالفات التقليدية مع القوى الغربية.
ويضع هذا القرار بلا شك ضغوطاً إضافية على فرنسا لإعادة تقييم استراتيجياتها في إفريقيا وسط تصاعد الأصوات المنتقدة لنفوذها التقليدي.
ويرتبط هذا التحول ارتباطاً وثيقاً بفكرة السيادة، حيث تسعى البلدان إلى استعادة الوكالة على سياساتها الأمنية والحد من الاعتماد على الجهات الفاعلة الخارجية، خاصة في ظل ضعف الاستجابات للتهديدات الذي تشكله الجماعات الإسلامية المتطرفة والشكوك التي تساور المسؤولين في طريقة تعاطي الحلفاء وفاعلية الاتفاقيات الثنائية، في الاستجابات المطلوبة لمساعدة الدول الإفريقية.
وتسلط الطبيعة المترابطة لهذه التطورات الضوء على التوازن المعقد الذي يجب على تشاد والدول الإفريقية الأخرى تحقيقه أثناء تنقلها في عالم متعدد الأقطاب. وفي حين أن قرار تشاد قد يلهم تحركات مماثلة في جميع أنحاء المنطقة، فإنه يؤكد أيضاً على الحاجة إلى نهج منسق، ومستدام للأمن، والحوكمة والتنمية.