يخدعُنا الإيقاع الظاهر للعناوين الرومانسية الجميلة، مثلُ عنوان مجموعة الشاعرة السورية هالا محمد «السّنونو هاجرتْ قبلنا»؛ يوحي لنا بالدّعة في مجاز هجرة السنونو، حين نتذكّر تلك الطيور اللطيفة الأخاذة بانطلاقها كما البرق، في مجيئها لدفء أحضان أهالي الدفء، وفي هجرتها حين يبدأ برد الأحضان، لكنّ الإيقاع سرعان ما يتغيّر حين ندرك أننا أنفسنا في العنوان الذي سرعان ما يضربنا، كما السنونو الذي يقطع أسلاك الهواء برقاً أمامنا، فنرى بلمعته المجزرة:
«السّنونو ابتعدتْ في الفضاء كالطلقة
خلف الجبال ارتمتْ،
في حلب في بيروت في الإسكندرية في بغداد في حيفا
واستقبلتْها السومريّات والكنعانيات والبابليات
والآشوريات والآراميات
بالبخور والبسملة.
أفيقي من الأخضر العميق يا شجرةَ الزيتون
غادر أهلُ الأرضِ الأرضَ، أفيقي يا فلْقةَ المعجزة
لن تسمعي نأمةً، أفيقي أيتها المقبرةْ
وتلطّفي يا منافي!
هاجرت السنونو… مجزرةً مجزرة.»
بعد تعليقها جسر الشرايين مزهراً دامياً بين المنفى والوطن، مصوِّرةً عيون السوريين المعلقة بالنوافذ، في مجموعتها السابقة «أعرني النافذة يا غريب»؛ تخطو محمد خطوةً خفيفةً أخرى لكنها كبيرةٌ على طريقِ فيما يتبدّى أنه مشروعُ كشفٍ شعريّ للجانب المستور من فعل مجازر التهجير العنيفة التي تنقلها الشاشات والأعمال الفنية التي تصوِّر عذابات لجوء السوريين، في تراجيديا مهولة لم تحدُث قبلاً في تاريخٍ على هذه الصورة، من قنصٍ وتقطيعٍ وتفجيرٍ لأجسادهم، بجميع أنواع الأسلحة البرّية والجوية التي يُتوِّجها الخنق بغاز السارين. ومن ثم الطرد العنيف إلى طرق اللجوء الحافلة بسرقتهم واغتصاب بناتهم ونسائهم وغرق أطفالهم في المتوسّط بين الموت ووهم الحياة، وتشرّدهم في المخيمات والمدن التي تلاحقهم فيها الطبيعةُ نفسها وسياط الجالدين ذواتهم والبشر بعد الطغاة بالصقيع والزلازل.
في هذا الهول الدامي المصوَّر يأتي، كما يبدو، مشروع محمد الشعري الناعم القاسي في ذات الوقت، إذ لا تنتهي العاصفة عادةً بهدوئها، بل تبدأ صورُها بإعادة العرض على شاشةٍ داخل من عانوها بعد الهدوء؛ وإذ تنحسر الذكريات العنيفة بطرد النفس لها كي لا ينفجر القلب، يَظهر ما تُظهره الشاعرة، ليحمي بدوره القلب من التفتّت، وإنْ كان منضوياً تحت عنوان مجزرة الهجرة: الفقد، وذكريات ما فُقِد، ليس بصوره المادية التي تتمارى في الذاكرة بأدوات المطبخ وكنبات الغرف وأَسِرّة النوم والخزائن والطاولات وحديقة البيت وأصص الزهور والجدول والأزهار وشجرة الدار وما يشمل جميع تفاصيل الحياة فحسب، وإنما الأخطر في هذا المشروع ما يتشابك ويترابط بهذه الأشياء المادية من روح البشر الذين عاشوها، وعلاقات عيشهم وحبهم فيها وبينها. وهذا مع إيصال محمد لملمةَ المادي إلى ما يصل لملمةَ الروح ولملمةَ الفجيعة الحقيقية الكامنة التي تهرب الذاكرة من مواجهتها كي لا تدمّر أصحابها. وتصنع الشاعرة لهذه اللملمة، بقصائد مشروعها الشعريّ، مهداً دافئاً تستيقظ فيه ذاكرة المكان/ البيت وما يحيطه، والمدينة والبلد والأهالي من دون خشية المواجهة، ومن دون خشية التدمير، وبارتقاءٍ إلى استعادةٍ حنونةٍ تثبّت المكان في الداخل بأجنحة الأحلام والشعر والأغاني:
«وسكبْنا على سياج الدار ضوءَ القمر/ كي يحرس الدارَ القمرُ
وأغلقنا باب الفجرِ،
وكفَّنّا بالشراشف البيضاء أغراضَنا
فلا يشتعلُ أينما حللْنا صمتُ البيت»
… وتجمَّلْنا من الأحجار بمرارة المرمر
تلك المدنُ وسلالاتُ الأفراح كانت لنا!
وتزنَّرْنا بالأغاني
فنعودُ كيفما طابَ لنا».
في مشروعها الشعري الهادئ المستمر بإضاءاته، تؤثّث محمد جانباً يتركّز، من دون أن يفقد ارتباطات الروح به، على البيت والطريق وصور العائلة والطبيعة التي لا تتخلّى عنها وتحيط بكل ذلك، مزوّدةً إياهُ بالحبّ والحياة، معلّقةً قنديلَها/ القمر، شاهداً ومضيئاً ولا تكاد تخلو من نبضه المنير المتنوع فيهِ قصيدة. وعلى غير طبيعة من يخدعون أنفسهم من الشعراء الذين يظنون أن التعميم بالتعمية عن موضوع المعاناة يمدّ مواضيعهم بالبعد الإنساني العام، لا تهرب محمد من موضوعها السّوري، بل تركّب لمكانه وبشره أجنحةَ الفنّ، ببعدٍ إنساني فني صارخ، إلى الدرجة التي تُمحور فيها قصيدتها إلى الشاعر المغرق ببعده الإنساني «سان جون بيرس» حول سوريا والسوريين، فتحدّثه عنهم، مرتقية بموضوعها الشعري، وبالمأساة التي يعانيها شعبُها، إلى ذرى تشابكٍ شعري فني عالٍ، مع أحد أهم رواد «الشعر الخالص»: «أيّها الشاعر ذو الشطآن البعيدة/ كمنْ ينتحبُ من مجرّد التفكير في الأمواج/ التي تكسّرت تحت القمر/ هل كنتَ تتوقّع أن تأتي شاعرةٌ سوريةٌ،/ ترتاح في ظلالك برهةً؟/ أنا لم أتوقّع!/ ماذا أقول لك عن سوريا؟». وتتابع كذلك: «أكتبُ لك في إقامتي بين البشر/ أنا أشعر أينما حللتُ بالغربة/ لا مكان لي سوى الشّعر!/ قد يحرّر الشعرُ الشاعر/ لكنْ لا أحدَ يستطيع أن يمنحَ شاعراً الأمانَ، لا أحد!/ العدالة ربّما. ومرّاتٍ البحرُ/ ألجأ في خلوتي إلى البحر/ كي أعيدَ له حرارةَ الخيال/ وأعيدَ إلى نفسي إنسانيتي غيرَ منقوصةٍ/ وأنفضَ عني وشمَ العنف بعد أن غرق الكثير من اللاجئين في البحر.»
مع طيورها المهاجرة بحدّة ودفء أجنحة مشروعها، تشكّل محمد مجموعتَها بسبعٍ وأربعين قصيدة نثرٍ متوسّطة الطول وقصيرةً حدّ السطر، تتوالى بعناوين، وتتمحور حول هجرة البشر قسراً من موطن نشأتهم، بموازاةٍ مجازية لهجرة السنونو، وبتداخلٍ دافئ بين الطيور المهاجرة والبشر. وتختزل محمد عدد قصائدها بتكرارٍ للعناوين مع منحها أرقاماً حيث تأخذ قصيدة «الطريق» عشرة أرقام، وقصيدةُ «وإذا سألَتْنا البيوت» 3، و«حكاية» 5، و«صورة العائلة 2، و«طبيعة صامتة» 2، و«كغريب يلتقي بغريبة» 3، و«السلام عليك يا غريبة» 3، و«في البعيد» 4، و«الفتنة» 6، و«أهل الهوى» 3. بينما تبقى واحدةً قصائدُ «في البدء كان الصدى»، و«صلاة»، و«القمر العائد من المنفى»، و«شجرة الهال»، و«في البدء كانت الهجرة»، و«في الصفحة الأخيرة». وتضيف محمد لمجموعتها قصيدةً طويلة واحدةً تحت عنوان «رسالة إلى سان جون برس ــ المسافات». وتقوم محمد على غير عادة المجموعات الشعرية في توالي القصائد المرقّمة بتكوين بنيةٍ مسرحية لقصائدها، تأخذ فيها العناوين الأساسية أدوار العرض، متداخلةً من دون توالٍ بأرقامها. وتوضحُ عناوين القصائد بجلاءٍ تمحور موضوع المجموعة حول الهجرة.
في هذه القصائد، تضع محمد خطوات قارئها على طريق هجرة اللجوء، وتقودُه في تعرّجاتها، موقفةً إياه للتأمّل في عشر محطّات على الطريق، بتفاصيل ما غادر من خلال تفاصيل ما غادرتْ، في رحلة مريرةٍ بـقهر غياب تفاصيل الحياة وحركتها في الذاكرة: أحجار البيت، مياه الجدول، الأزهار على ضفتيه، القمر فوقه، والروح التي تتفاعل مع عشب الطريق لتمنح نفسها القدرة على المضي من دون موتٍ يأكل الأقدام: «من سقى هذا العشبَ على الجانبين/ وأنتِ في طريق ارتحالكِ،/ كي لا ينتهي الطريق/ سابقي حريقَ الجمال، املئي رئتيك بالهواء/ خزّنيه للحظة الشدّة/ تمسّكي بالأحزان/ فلا تقتلعكِ انتصارات الطغاة ولا النوائب».
ولكي تكون رحلة التفاعل فعالةً مجديةً، تضع محمد في زوادة خيال قارئها وذائقته الشعرية لغتها الغنية بتفاصيل الطبيعة، وتركيب جملتها الشعرية الموشى بروح الكتابة الآلية السوريالية التي يغنيها موضوعها الحلمي بنبض معانقة الداخل ومحاولات مساعدته في ترتيب فوضاه المضروب بعاصفة اللجوء، بثقة قدرة الشعر والفن على مواساة الذات ونقل المواساة إلى لأم الجراحات وإنباضها بالأمل. وهي في ذلك تستخدم بساطة اللغة وتطعيمها بما تحمل من مكونات الثقافة الجمعية المبثوثة في ثقافة وحياة الناس، مثلما تفعل في قصيدة «شجرة الهال»، التي تقتطف عطرها من فوح أجساد الناس في بلدها بالقهوة المهيّلة، وعيشِهم قصة الخلق التي اخترعتها أساطيرهم، لتحوّرها وتخلق صباحاً عابقاً بقهوة الأمل:
«أنت تفيق الآن
تتلفّت إلى النافذة
يلمحكَ الضوء
هكذا خلق الله البصر».
وأيضاً:
«بين صباحٍ وصباحٍ تتبدّى اليابسة
تتبدّى المسافات يتبدّى الشِّعر
هكذا خلق الله القمر
… ستحيا يومَك
هكذا خلق الله الأيام والشهور والسنين.
أنت تشرب قهوتكَ الآن
هكذا هبط وحيُ شجرة الهال
هكذا على الأرض… زخّ المطر».
وإلى جانب بساطة اللغة تُغني محمد ذائقة قارئها بالمفردات التي تتراكب فيها المجازات وتخلق صوراً نابضة بالمفاهيم والعوالم البديلة عن عوالم الغياب، في محاولاتِ أن تكونها. ويعيش القارئ بهذا تداخلَ الأفكار بالصور والمفاهيم من خلال العش، الزهر، الشوق، بطولات العطر، الغيمة، حبال الغسيل، الشمس، القمر، النجوم، الغيمة، الجدول، البحر، الأحلام، القصيدة، فكرة العش، الزهر، الورد، الشوق، الأحلام، الأشجار، الشعر، القصيدة، الأغنية، القهوة، مريول المدرسة، الدفاتر، الطيور، المنفى، القش، الصدى، الصمت، الذاكرة، الأسلاف، الماضي، الحاضر، والمستقبل… وما لا يُحصى من مفرداتٍ تتراكب لتخلق عوالم مشحونةً بالحنين والشجن والدفء والحبّ الذي يلملم ذاكرة المكلومين بالفقد، عوالم بديلةً عن عوالم الغياب والقهر، عوالم تجعل الحياة متقبَّلة وحافلةً بأمل استعادتها، ودافعةً إلى تجسيد تلك الاستعادة، لأنها جميلة.
في صورة الشاعرة عن نفسها، في قصيدة «القمر العائد من المنفى»، تعكس الشاعرة نبضاً عما يجول في ذهن مشروع كشف مجزرة الهجرة، لا يُعيض عن عيش هذه المجموعة بكلّيتها، حيث تنبض التفاصيل بما يغني ولا يتوقف: «لا أريد لنفسي نسياناً ولا أريد لها ذاكرةً/ أريد لها غربة العطر المقطّر من الورد الجوريّ/ خلف أسوار المنازل في الشام».
هالا محمد: «السنونو هاجرت قبلنا»
منشورات المتوسط، ميلانو 2023
79 صفحة.
ولكن هجرة السنونو تختلف في الجوهر والمضمون عن هجرة بني البشر، لأن هجرة السنونو بيولوجية محضة توافق الفطرة التي فطرها الله عليها، أما هجرة بعض بني البشر فهي هجرة قسرية أو بالإكراه، ولله في خلقه شؤون ??