منطق سلام عام 2005 الذي حاولت الحكومة السودانية أن تقدم فيه تنازلات نادرة للمتمردين الجنوبيين، من قبيل منحهم حكماً ذاتياً وشبه مستقل لأقاليمهم، مع المشاركة في حكم الشمال، والاستثناء من القوانين الإسلامية كان، على الرغم من اعتداله، متناقضاً مع الأيديولوجية، التي كان التمرد قد بناها على مفهوم «السودان الجديد» الذي لا يعترف بثقافة عربية غالبة، ويتساوى فيه المسلمون مع أصحاب العقائد الطوطمية، على الرغم من المغريات التي حملها الاتفاق، والتي وصلت حد الجيش الخاص، والتمثيل الخارجي المنفصل، والتمتع بتمييز حكومي إيجابي، إلا أن المفاوض الجنوبي بدا حازماً لأمره، فإما سودان علماني جديد أو انفصال. لذا، فإن السنوات الخمس، التي تلت الاتفاق، والتي تعاهد الطرفان فيها على أن يجعلا منها توطئة لوحدة جاذبة كانت أقرب لتمرين من أجل إتمام الانفصال.
في الفترة ذاتها، التي كان فيها الصراع بين الشمال والجنوب يسير إلى نهاياته، كان صراع إثني آخر يحتدم في إقليم دارفور غرب السودان، على الرغم من اختلاف الواقع الثقافي والاجتماعي هناك، حيث يبرز الإسلام كدين وحيد غالب، إلا أن الفتنة التي بدأت بخلافات قبلية بين المزارعين والرعاة، سرعان ما تحولت لحرب شرسة خلّفت عشرات الآلاف من القتلى.
لم يتأخر «المجتمع الدولي» في اتهام البشير ونظامه بتأجيج الصراع، ونقله لمرحلة التطهير العرقي، الذي تستهدف به المكونات غير العربية. خلال العقد الأول من هذا القرن كانت مسألة دارفور في مرحلة الانفجار، لكن الأوضاع ما لبثت أن هدأت، حتى انحسر الأمر بجيوب معينة، وحركات تمرد محدودة، وهكذا كان الأمر حتى قبيل نهاية حكم البشير، الذي كان قد بدأ التفاوض على إخراج القوات الأممية من الإقليم. خلال الأشهر الماضية بدا وكأن الأمور ستعود مرة أخرى لمربع الصراعات الهوياتية، ليس فقط على مستوى إقليم دارفور، الذي ما يزال الأكثر خصوبة وقبولاً لاندلاع الحروب العرقية بسبب وجود الكثير من المرارات، ولكن أيضاً في الجنوب والشرق، الذي انفجرت فيه فتن طائفية غير معهودة، أدت لسقوط أعداد من القتلى والجرحى. تخبرنا التجربة أن الشعارات التي بدأت بالظهور في غرب السودان، والتي تنادي بطرد «المستوطنين العرب» والتي يتناقلها البعض من دون تفكير بعواقبها، يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وأن تستنكر، وإلا فإنها تؤذن بحريق فوضوي لن يستثني أحداً، أما أولئك الذين يحاولون استغلال البسطاء، وتقديم دعامات فكرية لمشروعاتهم العنصرية، فيجب عليهم أن يجيبوا على سؤال بسيط: هل هناك على سبيل المثال قبيلة قدمت من الجزيرة العربية لتستوطن في السودان، محافظة على هويتها الخاصة، من دون أن تختلط بالقبائل المحلية على مدى كل تلك القرون؟ علماً بأن منطقة دارفور، كما أغلب بلاد السودان، كانت استراحة محببة للعابرين في طريق الحج الافريقي، ما يجعل من الصعوبة إسقاط مفاهيم «المواطن الأصلي» و»الوافد» عليها.
ما حدث الشهر الماضي في منطقة ميستري، مثال حي لتحول التحريض بسيط المظهر إلى مأساة، حيث دخلت المنطقة دوامة من العنف، عقب تكرر استهداف أفراد لمجرد انتمائهم للعرب الرحل، الذين يتم تعميم وصف «الجنجويد» عليهم. التعميم عنصري بلا شك، ويذكر بما كان يحدث في العراق، حينما كان البعض يتعمدون وصف السنة بالدواعش والإرهابيين لتبرير استهدافهم. نتيجة لاعتداءات ميستري، وبسبب سلبية الوجود الأمني، وجدت المكونات العربية نفسها مجبرة على بدء حرب دفاع عنيفة مضادة. الأمر معقد، لأنه إذا كانت المكونات التي تصنف نفسها افريقية أو غير عربية تتقوى بالمجموعات المسلحة المتمردة على الدولة، فإن جهات كثيرة أخرى، لن تدخر وسعاً في سبيل دعم وتسليح القبائل «العربية» أما السلاح فيمكن الحصول عليه بسهولة، بفضل إزدهار تجارته، والهشاشة الأمنية التي تمتد على طول المنطقة من الجنوب إلى الغرب، وصولاً للفوضى الليبية، كل ذلك يساهم في جعل مثل تلك الصراعات ممتدة ولا نهائية، والأهم: بلا منتصرين.
تمرير تصنيف بعض أبناء السودان كمستوطنين أجانب، بإعادة إنتاج سردية الوافدين العرب، التي بدأت مع الانفصاليين الجنوبيين، ثم مع حركات الغرب، يجعل الأمر قابلاً للتكرار في مناطق أخرى، وضمن إثنيات مختلفة. بالفعل بدأنا نسمع اليوم أصواتاً عنصرية في مناطق شرق السودان، وهي تتشاكس مفرقة بين ما تعتبره عناصر أصيلة وأخرى طارئة أو قادمة من بلدان مجاورة. حسب هذا المنطق المعطوب فإن هذه العناصر الطارئة لا يحق لها، إن بقيت، المنافسة على السلطة ولا التمتع بالثروة، وهو ما يفسر تكرار استهداف الأسواق، بزعم سيطرة «الوافدين» عليها، كما يفسر الاحتجاجات المتكررة، إبان توزير أو تعيين أشخاص بخلفيات معينة في مناصب ولائية رفيعة.
يبدو وكأن الأمور ستعود لمربع الصراعات الهوياتية، ليس فقط على مستوى إقليم دارفور، ولكن أيضاً في الجنوب والشرق
الواقع الأمني في مناطق الشرق تدهور بشكل مريع خلال الأسابيع الماضية.. الصور والفيديوهات التي تم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لأعمال النهب والجثث الملقاة على الشارع، كانت توحي بأن الوضع على شفا الذهاب لمربع الحرب الأهلية العمياء، التي يجري فيها الاستهداف على الهوية. الأزمة الشرقية، وبخلاف مشكلتي الجنوب والغرب، لم تحظ باهتمام كبير من قبل المتعاطين مع الشأن السوداني، ولذلك فإن فهم الانفجار المفاجئ للصراعات القبلية الدموية وظهور رغبات في الانفصال يبدو صعباً. من دون الدخول في تفاصيل لا يسعها المقام يكفي التذكير بحقيقتين: الأولى هي أن المناطق الشرقية، مثل كثير غيرها من مناطق السودان، ظلت تعاني من تهميش تنموي كبير، وعوضاً عن أن تزدهر هذه المناطق، التي تحوي الكثير من الثروات الطبيعية، التي تساهم بفعالية في الاقتصاد الوطني، فقد تحولت لمناطق هشاشة أمنية، وسوق لتهريب البضائع والبشر من وإلى السودان. يكفي للتدليل على الأهمية الاستراتيجية للمنطقة التذكير باطلالتها على البحر الأحمر، واحتوائها على أهم الموانئ، ما جعلها محل اهتمام وطمع الكثيرين، وما يجعل السودان دونها، أرضاً مخنوقة. الحقيقة الثانية هي عامل الهجرة، فصحيح أن الحدود السودانية، كما أغلب حدود العالم الثالث، رسمت بشكل عشوائي غير مستند إلى أي منطق، وأن التداخل القبلي بناء على ذلك أمر وارد ولا يقدح في وطنية أحد، إلا أن هناك خصوصية لمناطق الجوار الإثيوبي والإرتيري، فلأسباب سياسية أو اقتصادية مختلفة، انتقل الملايين من الناس إلى داخل الحدود السودانية طلباً للجوء، أو لإعادة التوطين وهو الأمر الذي بدأ من قبل استقلال إرتيريا عن إثيوبيا، وظل مستمراً بكثافة حتى يومنا الحالي. كان لذلك أثر بالغ في ديموغرافيا المنطقة، خاصة في إريتريا التي تناقص فيها عدد المسلمين، الذين أحسوا بالاضطهاد والتهميش عقب نشوء الدولة التي اختارت لنفسها هوية مسيحية.
اليوم يتهم كثير من المنتمين للقبائل المشتركة بالإرهاب والانتماء لحراك الجهاد الإرتيري السري، الذي يرتب لقيام دولة إسلامية، وهي تهمة سهلة وصعبة الإثبات في آن واحد، وتذكر بوصف العرب بالجنجويد، أو السنة بـ»داعش». وفق هذه المعطيات، فإن دعوات «تحجيم» المستوطنين الأجانب تظل غير واقعية، وتكتنفها صعوبات، على رأسها مسألة تحديد، وتعريف العناصر الطارئة، في ظل الامتزاج القبلي الذي تشهده المنطقة، خاصة الشرق، الذي يجمع إلى جانب القبائل المشتركة بين أكثر من بلد، قبائل من مختلف أنحاء السودان من التي اختار لها القدر هذه الجغرافيا، كعمال البحر والميناء، وكأهالي شمال السودان، الذين تم تهجيرهم بسبب بناء السد العالي وغيرهم.
كاتب سوداني
كل أصوات الدعوة للتفرقة والإنفصال ورائها المخابرات الخليجية التي تشرف على العديد من المنصات الإعلامية الموجهة للسودان…
السؤال هو أين الدعاة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحذرون من سفك دماء المسلمين ونهب اموالهم؟؟
دعوات الجاهلية والفتن يتم تأجيجها لضمان إضعاف السودان واستمرار النزيف فى هذا البلد المسلم.
اعانكم الله إخوتنا فى السودان.
تحليل واقعي ومفيد عن الصراع القبلي في شرق السودان المجاور لبلدي ارتريا
شكرا للكاتب