اتجهت مداولات الأزمة السودانية مؤخراً شمالا إلى مصر، فيما دعا إليه من لقاء بين فرقاء الحرب والسياسة السودانية، مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية التي تتقدمها مدنياً «تقدم»، تنسيقية القوى المدنية لإيقاف الحرب. والدور المصري الرسمي وساطة، أو تدخلا في الشأن السوداني، يتجاوز لعوامل تاريخية واستراتيجية الأدوار المجاورة، حتى تلك التي تمتلك دوراً مباشراً في مسارات الأزمة، ولكن يظل الموقف المصري لا يعتمد عليه من حيث وصايته التاريخية على السودان، وإنما في ما يعنيه بعيداً عن حساسيات علاقات الجغرافيا والتاريخ في هذا الظرف الاستثنائي.
الجيش السوداني يخوض حرباً ضد جسم تخلق من رحمه بدعم كامل، إلى جانب وجود أرتال من التنظيمات المسلحة تحيط به، تحالفاً وحربا، ما عقد من مهمته ودوره
ومهما تكن مخرجات هذا الاجتماع، الذي ضم لفيفا من أطياف الفرقاء السودانيين، وغاب عنه التمثيل الرسمي لطرفي الصراع، الجيش وقوات الدعم السريع، مع استثناء عناصر عديدة غير مرغوب فيها، حسب تقديرات السلطات المصرية. وبيان المؤتمر يأتي بما هو متوقع، بالدعوة إلى إنهاء الحرب، وعلى عادة ما تحمله مثل هذه المؤتمرات في بياناتها، من دون آليات ملزمة في تطبيق ما تنص عليه، وإن بدا اتجاهاً نحو الاعتراف بواقع الحرب ونتائجها.
وإذا كان اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخامس عشر من أبريل/نيسان من العام الماضي على خلفية صراع السلطة، بين قوى متصارعة عسكريا ومدنيا، فإن مسؤولية إدارة العلميات العسكرية وما نتج عنها يتحملها الطرفان. ولم ينطلق الجيش في هذه الحرب، من حيث دوره المنوط به في الدفاع صداً لميليشيا متمردة، إذ أنه يمثل امتدادا لسلطة انقلبت على حكومة الفترة الانتقالية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك في محاولة مستميتة للإبقاء على الحكم العسكري، بطبيعته الديكتاتورية وبما يمثله كذراع سياسي لأنصار النظام السابق. وما طال الجيش وقادته من انتقادات لأدائه في الحرب إزاء التقدم الذي أحرزته قوات الدعم السريع، ببسط سيطرتها على ولايات ومدن فشل الجيش في استعادتها، مع إطالة أمد الحرب، يثير من الأسئلة عن طبيعة إدارة الجيش نفسه، وعن مدى مهنيته وقوميته، وخضوعه لقوة سياسية مدنية تقوده، لها أجندتها السياسية والأيديولوجية. فقد صرحت في وقت سابق إحدى قيادات التنظيم الإسلامي، بإجراء تحقيق مع قيادات عسكرية، حول عزل الرئيس المخلوع عمر البشير، مع قادة الجيش، مما كشف عن طبيعة الجيش ودوره من حماية البلاد إلى حراسة السلطة. ولأن الجيش ظل من أكبر معضلات الصراع السياسي عن طريق الانقلابات العسكرية، التي أصبحت من أقصر الطرق للوصول الى السلطة، وكيف باتت وسيلة وحيدة دون غيرها، للانقضاض على شرعية السلطة وممارستها. وإن لم تعد الانقلابات في سياق ممارسة السياسة والتسلط ظاهرة ينشغل بها الباحثون والمهتمون بالشأن السياسي وحسب، بل تشكل وعيا جديدا لدى طائفة واسعة من المواطنين، أدركت معه فداحة الكلفة المرتفعة لمغامرات الانقلابيين على صعيد التطور الاقتصادي والحقوق السياسية والحريات والكرامة الإنسانية، وكل ما تقول به سلطات الانقلابات، وتعمل عكسه تماما. ويعد الجيش السوداني من أكثر الجيوش التي استأثرت بالسلطة والحكم الشمولي كغالب نظم المنطقة العربية والافريقية، في مرحلة الدولة الوطنية دولة ما بعد الاستعمار، وكان دائماً ضمن الأدوات الموظفة سياسياَ في صراع السلطة، ما جعل منه محوراً جاذباً للطموح السياسي غير المحدود، ضمن امتيازات اجتماعية أخرى متراكمة، وأفضى هذا الوضع «المتميز» إلى تكوين نخبة عسكرية أوليغارشية، فاقمت أزمة الحكم واحتكار السلطة، حاملة معها عاهات الدولة الاجتماعية في الإقصاء والتهميش وغيره من جذور الأزمة السودانية. وبما أن المؤسسة العسكرية، على قول منظر السياسة الأمريكي صاموئيل هنتنغتون، الوحيدة في العالم الثالث الأكثر تنظيما فقد وُظف هذا التنظيم والضبط في تراتبية صارمة ليس كقوة ضاربة في ترجيح كفة الصراعات السياسية، ولكن أيضا في حصر الامتيازات غير العسكرية. والمفارقة أن هذا الجيش يخوض حرباً ضد جسم تخلق من رحمه بدعم كامل، إلى جانب وجود أرتال من التنظيمات المسلحة تحيط به، تحالفاً وحربا، مما عقد من مهمته ودوره وتعريفه ضمن التركيبة الهجين للمنظومات الأمنية خارج سلطة الدولة في البلاد. والشاهد أن هذا التعدد في القواعد العسكرية، جعل الجيش نفسه فصيلاً ضمن الفصائل المسلحة، وبما يقل بالنتائج والأداء عن قوة وحجم القوى الأخرى الموازية له كقوات الدعم السريع.
ولم يكتف الجيش بإدارة سير المعارك، بل تواصل دوره السياسي في إدارة العملية السياسية والدبلوماسية، وبطبيعة الحال الهيمنة بالسلطة المطلقة في أوضاع يصعب الحديث فيها عن اختصاصات دستورية. ولأن استمرار الفريق البرهان على مجلس السيادة منذ 2019 عام اقتلاع النظام وحتى انقلابه في أكتوبر /تشرين الأول 2021 في إقصاء شامل للقوى المدنية الديمقراطية، من مكونات السياسة السودانية، أصبح الخطاب العسكري، إن كان بذريعة الحرب، أو السلطة، محدداً لتوجهات الدولة على ما تبقى منها، ثم إن الجهات المدنية التي تدعم وتحرض على استمرار الحرب مهما كانت الكلفة، تدرك ألا قوى تعيدها إلى السلطة أو تحافظ على ما اكتسبته من السلطة في السابق، إلا عن طريق قوة الجيش المطلقة وما يمثله من عنف مشروع في بنية الدولة! فخلال عقود ثلاثة تحول فيها الجيش من مهام الأمن القومي، إلى دائرة تتدخل بشكل غليظ في النشاط الاقتصادي، ما أثر على كفاءته.
فما هي الحلول والتصورات في ذهن المؤسسة العسكرية لحسم أو إنهاء الأزمة السودانية؟ من واقع مجريات الأمور، وتحديداً سير المعارك، يصدر الجيش بالحسم العسكري، وكما تردد ألا تفاوض مع الميليشيا (قوات الدعم السريع) ونتائج المعارك على الأرض المستمرة لا تدعم فرضية استمرارها على الوتيرة نفسها من الهزائم الماثلة، أما التفاوض فإن التحركات الدولية والإقليمية والشعبية، ربما تضغط على قادة الجيش للعودة إلى منبر جدة للتفاوض، كما أكد عليها المؤتمرون في القاهرة وما يتعرضون له من ضغوط. ففي زيارة من الرئيس الإثيوبي آبي أحمد وقبلها نائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي من دولتي رعاية التفاوض للفريق البرهان، في مقر حكومته المنفية في بورتسودان كلها تشير إلى تحرك بشأن الموقف المتوقع لنهاية الحرب الجارية، التي لم يعد للجانبين إمكانية الاستمرار فيها بوزن حقائق الوقائع. وعلى فرض أن تمضي المؤسسة العسكرية في اتجاه الحرب فإن الخطر الذي قد يواجهها قد يفقدها القدرة على التحكم بمجريات الأمور، ليس على مستوى ما يحقق عسكرياً وإنما بما يهدد وجود الدولة نفسها.
وفي خضم هذه التطورات المتلاحقة عسكرياً ودبلوماسياً والحاجة الإنسانية للتفاهم حول إيجاد مخرج من الأزمة السودانية، يتعين على قادة السلطة العسكرية استيعاب المعادلة السياسية، التي تقتضي في ما تقتضي أن للقوة العسكرية ـ إن وجدت- حدوداً حتى في الحرب، لتبدأ عندها العملية السياسية والتفاوض، وهذا ما يعني عملياً التحرك من مرحلة القتال إلى الحوار. ويحتاج إلى تغيير في الوسائل والخطاب والشخصيات بما يلائم مرحلة مقبلة لا يملك منها إلا بما تضعه كواجهة شرعية مسلحة للدولة والجيش معا، ويلزم ذلك أيضا فكَّ ارتباطه الأيديولوجي، أو التقليل من غوغائيته في سبيل الأمن القومي؛ فمفهوم كل من الجانبين الجيش وحاضنته السياسية يختلف في تقديرات الموقف من الحرب، فبينما تتشدد الواجهة السياسية في مواصلة القتال، على الرغم من الخسائر يبرهن موقف الجيش الميداني على استحالة تحمل الضغط إلى ما لا نهاية.
كاتب سوداني