بمناسبة مرور سنة على انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2021 الذي به أطاحت الطغمة العسكرية الحاكمة في السودان بشركائها المدنيين المنتسبين إلى «قوى الحرية والتغيير»، أجمعت التقارير الصحافية في تقديرها للموقف على أن العسكريين أخفقوا في محاولتهم الاستئثار بالسلطة على أنقاض المساومة التي كانوا قد وقّعوا عليها مرغَمين في أغسطس/ آب 2019.
فإن إزاحة الانقلابيين لعبدالله حمدوك، الذي كان يحظى بثقة الحكومات الغربية نظراً لماضيه في بنك التنمية الأفريقي وشتى المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة، قد أدّت إلى تجميد المساعدات الدولية للسودان بما فاقم أزمة اقتصادية كانت مستشرية أصلاً على خلفية الوضع الثوري السائد في البلاد. ومن جهة ثانية، فإن الانقلاب لاقى على الفور معارضة شعبية عارمة شكّلت «لجان المقاومة» رأس حربتها الشبابية، والتفّت حولها قوى المعارضة للحكم العسكري، سواء تلك التي عارضته بصورة جذرية بحيث رفضت مساومة عام 2019 أو «قوى الحرية والتغيير» التي خلعها العسكر من الشراكة معهم في الحكم. وقد اكتملت لوحة الإخفاق باشتعال جبهات النزاع المسلّح في الأطراف بما أثبت عجز العسكر حتى عن تحقيق المهمة المنوطة بهم أصلاً في حفظ السلام الأهلي داخل البلاد.
كان الإخفاق ساطعاً إلى حد أن الرجل الثاني في الطغمة الانقلابية، محمد حمدان دقلو، زعيم ميليشيات الجنجويد المُجرِمة التي رفعها عمر البشير إلى مرتبة «قوات دعم سريع» متخصّصة بدعم قوات القمع المدنية على وجه السرعة عند الحاجة (وهو الدور الذي قامت به في ارتكابها مجزة الثالث من يوليو/ تموز 2019 أمام مقرّ القيادة العامة للقوات المسلحة)، كان الإخفاق ساطعاً إذاً إلى حد أن دقلو عينه أقرّ بفشل الانقلاب بعد تسعة أشهر فقط من وقوعه.
وقد لاحظنا في التحليل الذي نشرناه على هذه الصفحات بمناسبة مرور سنة على الانقلاب على حكومة حمدوك، أن إخفاق ذاك الانقلاب جعل أركان النظام القائم «يرحّبون بمشروع الدستور الانتقالي الذي طرحته اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، إذ يرون فيه خشبة خلاص قد تسمح للطغمة العسكرية عند الحاجة إخراج حلّ وهمي للأزمة المستعصية، يتيح للعسكر تسليم الحكم شكلياً لمدنيين يعملون وسيف القوات المسلحة مسلّطٌ فوق رقابهم» («السودان: الطغمة العسكرية سنة بعد الانقلاب»، 25/10/2022).
هاجس الطغمة العسكرية من ازدياد التململ في صفوف القوات المسلحة شكّل حافزاً رئيسياً على تعلّقها بخشبة الخلاص التي مدّتها لها الوساطة الدولية بمعونة قوى مدنية
فقد أدّى الإخفاق بالعسكريين إلى أن قرّروا الإمساك بخشبة الخلاص تلك توقّياً الغرق، لاسيما أنهم خضعوا لضغط متواصل من الحكومات الغربية ومبعوثها «الأممي» في الخرطوم، ولم يستطع أصدقاؤهم الخليجيون درء الضغط عنهم. فكان حفل التوقيع على خشبة الخلاص المسماة «الاتفاق الإطاري» يوم الإثنين الماضي، ألقى دقلو خلاله بخطاب كادت دموعنا تذرف لدى قراءة نصّه لشعورنا بأننا أمام معجزة سماوية أدّت إلى تحويل الذئب إلى حمل! وربّما كان خير تعليق على توقيع «قوى الحرية والتغيير»، أو بالأحرى ما تبقّى منها، على ذلك الاتفاق المجدّد، هو ما جاء على لوحة حملها أحد المتظاهرين ضد التوقيع مذكّراً بالحديث الشريف: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين».
والحال أن الاتفاق الجديد أكثر هشاشة بعد من القديم الذي أسقطه العسكر بعد سنتين وشهرين من التوقيع عليه، إذ يأتي وسط معارضة عارمة من طليعة الثورة السودانية ممثلةً بلجان المقاومة، وهي التي نظّمت تظاهرة يوم الإثنين الاحتجاجية التي جرى قمعها باستخدام كثيف للغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية. هذا ويتضمّن الاتفاق الجديد تعهّدات عسكرية غير ملزمة، إذ لا ترتبط بإجراءات ملموسة وفق جدول زمني، بحيث يسهل الالتفاف عليها بما لا يتعدّى بأحسن الأحوال تقليد نظام عبد الفتّاح السيسي الاستبدادي.
فقد نصّ الاتفاق الجديد على إصلاح عسكري «يقود إلى جيش مهني وقومي واحد يحمي حدود الوطن والحكم المدني الديمقراطي وينأى بالجيش عن السياسة ويحظر مزاولة القوات المسلحة الأعمال الاستثمارية والتجارية ما عدا تلك التي تتعلق بالتصنيع الحربي والمهمات العسكرية تحت ولاية وزارة المالية وينقي الجيش من أي وجود سياسي حزبي». فإن فحوى الكلام هنا التزام الجيش بحياد وهمي عن السلطة السياسية على غرار الحالة المصرية، مع استمراره بمزاولة شتى الأعمال الاستثمارية والتجارية بحجة أنها تخصّ «المهمات العسكرية» من مسكن وملبس ومأكل وملهى، إلخ، للعسكريين، ونأي العسكر عن أي نشاط للقوى الثورية يهدف إلى سلخ أبناء الشعب الفقير في قاعدة القوات المسلحة عن الطغمة المتربّعة على قمة الهرم العسكري.
ذلك أن معارضة قوى الثورة الحيّة للاتفاق وتمسكّها بلاءاتها الثلاث في رفض التفاوض مع الانقلابيين ورفض الشراكة معهم ورفض إضفاء أي شرعية على انقلابهم، في سبيل مواصلة النضال حتى إسقاط الحكم العسكري، تقتضي كي تنجح سلخ قاعدة القوات المسلحة عن الطغمة العسكرية، وهو الأمر الذي تخشاه هذه الأخيرة فوق أي أمر آخر. ولا شك في أن هاجس الطغمة العسكرية من ازدياد التململ في صفوف القوات المسلحة شكّل حافزاً رئيسياً على تعلّقها بخشبة الخلاص التي مدّتها لها الوساطة الدولية بمعونة قوى مدنية لا تزال تحلم بإمكانية تحقيق «هبوط ناعم» على مدرج وعر!
كاتب وأكاديمي من لبنان