لماذا لا تهتم الولايات المتحدة العائدة بقوة إلى الشرق الأوسط بأمور السودان الذي يعاني شعبه من حرب أهلية رتبت نزوح الملايين وتهدد من بقي بأخطار المجاعة وانتشار الأوبئة والدمار البيئي؟
تكمن الإجابة في تقلبات السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين وتداعياتها على راهن ما تهتم به القوة العظمى وتترجمه إلى سياسات وممارسات على أرض الواقع.
رتبت حروب الولايات المتحدة الفاشلة في أفغانستان والعراق، مضافا إليها الاكتفاء الذاتي فيما خص موارد الطاقة أمريكيا، تبلور توافق داخل نخبة الحكم في واشنطن بشقيها الديمقراطي والجمهوري في اتجاه الحد التدريجي من الوجود العسكري والاستثمار السياسي في منطقة ملتهبة باستمرار. في المقابل، كانت الصين بدفع من طلبها الكبير والمتنامي على استيراد الطاقة الصين تتجه إلى تطوير علاقات تجارية واقتصادية وثيقة وشراكات استراتيجية مع بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على نحو فتح أمام بكين أبوابا واسعة للنفوذ الإقليمي. كذلك كانت عوامل التراجع التدريجي للدور الأمريكي وفراغات القوة الناجمة عنه وتصدع مؤسسات الدولة الوطنية في سوريا وليبيا والسودان، كانت تمكن روسيا من العودة إلى المنطقة بعد أن غابت عنها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي ظل عشرية الهيمنة الأمريكية الممتدة بين حرب تحرير الكويت 1991 وهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تبعها من غزوين كارثيين لأفغانستان والعراق ومن استنزاف هائل لقدرات الولايات المتحدة العسكرية والسياسية ومن تداعيات بالغة السلبية على صورتها في عموم العالم العربي والإسلامي.
غير أن المسارات الأمريكية للانسحاب من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتراجع الوجود العسكري والاستثمار السياسي توقفت ما أن نشبت الحرب الروسية-الأوكرانية 2022 وأعادت واشنطن اكتشاف احتياجها إلى الحلفاء في منطقتنا إن للسيطرة على الأسعار العالمية للطاقة أو لحشد التأييد الدولي لمواقفها ومواقف الغربيين في مواجهة روسيا أو لمنع المزيد من امتداد نفوذ بكين وموسكو بين إيران والخليج وبين المغرب العربي. ثم جاءت حرب غزة 2023 وكلفتها الإنسانية الباهظة وتداعياتها الواسعة على الأمن الإقليمي الذي يبدو حاليا بعيد المنال بالنظر إلى مجريات الأمور في فلسطين وإسرائيل ولبنان وسوريا والعراق واليمن والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، جاءت الحرب في غزة لتعيد واشنطن إلى خانات التدخل العسكري والسياسي والدبلوماسي المباشر في منطقتنا وإلى توظيف واسع لمصادر وموارد قوتها يبتغي تارة وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع وتارة ثانية إنزال العقاب بوكلاء إيران في الشرق الأوسط وتارة أخيرة إطلاق مفاوضات للحل النهائي بين إسرائيل وفلسطين واستكمال الدمج الإقليمي لتل أبيب. غير أن الولايات المتحدة، وفي انسحابها من الانسحاب من منطقتنا بين نشوب الحرب الروسية ـ الأوكرانية 2022 ونشوب حرب غزة 2023 واستمرارها المأساوي إلى يومنا هذا، تكتشف كيف أن أدواتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية لم تعد كافية إن لإقناع إسرائيل بوقف الحرب أو لردع إيران أو لإطلاق مفاوضات سلام جادة.
أما المجتمع الدولي، فشقه الدبلوماسي يصم آذانه عن تحذيرات منظمات أممية وجهات إغاثية عالمية عديدة بشأن خطورة الأوضاع في السودان
تتحدد بوصلة مصالح وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وفقا لتشابكات قضايا أمن الطاقة والاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب وأمن إسرائيل. عسكريا، تحتفظ واشنطن ومنذ سنوات عديدة بقوات تتراوح أعدادها بين 45 و60 ألفا وتتوزع على قواعد عسكرية في البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة والكويت فضلا عن قوات عاملة في سوريا والعراق. تتمثل الأهداف الاستراتيجية للقوات الأمريكية العاملة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في 1 ) حماية خطوط الملاحة الدولية لضمان إمدادات الطاقة الضرورية للاقتصاد والتجارة العالميين، 2) مكافحة الإرهاب ومنع عودة عصابات داعش وأتباعها إلى فراغات الدولة والقوة الجبرية الحاضرة في سوريا والعراق ومواقع أخرى، 3) احتواء تنامي النفوذ الإقليمي لإيران ولوكلائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومواجهة التهديدات التي يمثلونها للاستقرار والأمن في عموم المنطقة، 4) ضمان أمن إسرائيل وتطبيع العلاقات بينها وبين جوارها في المنطقة العربية.
في أعقاب هجمات 2001، جعلت الولايات المتحدة الأمريكية من نشر الديمقراطية هدفا استراتيجيا أساسيا لها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأضافته إلى مجموعة أهدافها التقليدية. غير أن الفشل الذريع لواشنطن في مساعدة العراق وأفغانستان على بناء مؤسسات ديمقراطية مستقرة واستمرار الأزمات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف ببلاد الرافدين والانهيار الشامل للمجتمع الأفغاني الذي عادت حركة طالبان لحكمه بعد الانسحاب الأمريكي، وذلك على الرغم من الكلفة البشرية والمالية الباهظة التي تحملتها الولايات المتحدة، جميعها عوامل حدت كثيرا من الطموحات الأمريكية في المنطقة. وبالتبعية، عادت الأهداف الاستراتيجية لواشنطن لترتبط بضمان إمدادات الطاقة ومكافحة الإرهاب واحتواء إيران وضمان أمن إسرائيل والحفاظ على قدر من الاستقرار الإقليمي بعيدا عن أوهام نشر أمريكي للديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
ولأن هذه هي الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، فإن مساحات التوافق والتلاقي بينها وبين الصين واسعة وواضحة. فبينما لا تتضرر روسيا وهي منتج ومصدر عالمي كبير للطاقة كثيرا من غياب الاستقرار عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نظرا لارتباطه الطردي بارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، وبينما تتحالف موسكو استراتيجيا مع طهران ودمشق وهما عاصمتان معاديتان للمصالح الأمريكية وتتورط في أوروبا وخارجها في صراعات صفرية مع واشنطن؛ فإن مصالح الصين تلزمها بالعمل على تدعيم الاستقرار في المنطقة ضمانا لإمدادات الطاقة والتجارة وخطوط الملاحة الدولية. وعلى الرغم من أن الإدارات المتعاقبة في واشنطن وجهت انتقادات عديدة لبكين لكونها لا تسهم لا عسكريا ولا أمنيا وتحرص فقط على الإفادة من القدرات والإمكانات الأمريكية، إلا أن التفضيل الاستراتيجي للاستقرار يقارب بين القوتين العظميين ويفتح العديد من أبواب التعاون بينهما. في ذات الوقت، لا يلغي تفضيل الاستقرار واقع التنافس المتصاعد بين الصين التي تبحث لنفسها عن قواعد عسكرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبنت واحدة في جيبوتي وبين الولايات المتحدة التي تتخوف على هيمنتها الأمنية التي تضمنها قواعدها وقواتها مثلما لا يلغي واقع القلق الأمريكي من المزاحمة الصينية في المنطقة بعد أن صار العملاق الأصفر الشريك التجاري الأهم للأغلبية الساحقة من بلدانها وتضاعفت صادراته من التكنولوجيا والسلاح واستثماراته في البنى التحتية والموانئ والطاقة المتجددة.
في هذه السياقات الجيو ـ استراتيجية والجيو ـ سياسية، كانت المواجهات العسكرية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع تتواصل بدموية ووحشية لتسقط أكثر من 10 آلاف قتيل وآلاف المصابين وتشرد ملايين المدنيين وتدفعهم إلى النزوح إلى دول الجوار وتهدد أقاليم مختلفة في البلد مترامي الأطراف بأخطار المجاعات وانتشار الأوبئة. اليوم، يصل عدد النازحين من المدنيين إلى 8 ملايين سودانية وسوداني حلت أغلبيتهم بمصر، وتطل المجاعة بوجهها المتوحش على سكان إقليم دارفور وعديد المناطق النائية التي لا يصلها ما يكفي من المساعدات الخارجية، ويواجه أكثر من 25 مليون مواطن الجوع كواقع أليم لا فكاك منه، وتحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) من خطر تعرض أكثر من 700 ألف طفل لسوء تغذية يفضي إلى الموت المحقق.
تستمر فصول المأساة السودانية، والقوى الفاعلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تنشط لإنهاء الحرب بينما الاتحاد الإفريقي يكتفي بإصدار بيانات عمومية تدعو المتحاربين إلى وقف القتال والقوى الدولية باستثناء جهود أمريكية وصينية محدودة تراوح بين تجاهل المأساة وبين الإفادة منها ببيع السلاح والخدمات العسكرية.
أما المجتمع الدولي، فشقه الدبلوماسي يصم آذانه عن تحذيرات منظمات أممية وجهات إغاثية عالمية عديدة بشأن خطورة الأوضاع ويمتنع عن الضغط بفاعلية على الجيش وقوات الدعم السريع لوقف إطلاق النار والبحث عن حلول تفاوضية، وشقه الحقوقي المفترض في مكوناته (مؤسسات أممية ومنظمات حقوق إنسان عالمية) أن يوثق الجرائم والانتهاكات التي تشهدها السودان منذ ربيع العام الماضي يصمت فلا تقارير تنشر ولا أرقام وبيانات تخرج إلى العلن إلا فيما ندر، وشقه الإعلامي بجناحيه التقليدي (الصحافة والإعلام المسموع والمرئي) والحديث (وسائل التواصل الاجتماعي) يركز إما على الحرب في غزة وصراع السرديات الدائر بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو على الحرب الروسية-الأوكرانية وصراع السرديات الدائر أيضا بين الطرفين هناك ويتجاهل في الأغلب الأعم المأساة السودانية على الرغم من الكلفة البشرية والمادية المخيفة.
كاتب من مصر