إن ما وصلت إليه حرب السودان المدمرة على مداها الزمني، واتساعها الجغرافي وما تداعى منها من أوضاع مأساوية، يذكر بمآسي حروب الإبادة والتطهير العرقي في رواندا ـ المعيار الثابت لقياس صراعات السودان – وغيرها من صراعات شهدتها القارة الافريقية المنكوبة، تضاف إلى صفحات تاريخ حروب العالم المعروفة. وكغيرها من حروب تندلع في البلدان الفقيرة، تكون ويلاتها البشرية أكثر بشاعة، ما يستدعي تدخلاً يفوق قدرة أطراف أو طرفي الصراع في الحالة السودانية بين جنرالين، وكحرب لا يتوقف نزفها عند طموح الجنرالين، بل تجاوزت ذلك إلى تهديد الكيان الوجودي لبلد اسمه السودان.
معايير التدخل الدولي في السودان الذي بات وشيكاً، أو هكذا يتمنى قطاع عريض لا يرى للحرب الدائرة أي أمل في نهايتها بالطرق التقليدية، من مفاوضات ووساطات إقليمية ودولية. فالذين يطالبون بالتدخل بالنظر إلى تداعيات الحرب، وما أحدثته الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين العزل، والدمار الذي طال البنية التحتية والمرافق الخدمية، وخروج المنظومة الطبية من الخدمة وتعطل وسائل الحياة؛ كلها تستدعي، في حال فشل الحوار الداخلي الوطني حرباً أو تفاوضاً من وضع حدٍ لحرب كما وصفها مشعلوها بالحرب «العبثية». والمطالبة بالتدخل الدولي تبدو في هذه الوضعية الحرجة، استغاثة عاجلة لشعب يقف أمام آلة الموت، من دون رحمة، وبلا مبررات ومن دون نهاية.
المطالبة بالتدخل الدولي تبدو في وضعية السودان الحرجة، استغاثة عاجلة لشعب يقف أمام آلة الموت، من دون رحمة، وبلا مبررات ومن دون نهاية
ولهذا التدخل المرغوب كوابح قد تؤجل أو تبطئ من حدوثه، على غير ما يرغب المطالبون به، خاصة أن التدخل المطلوب تدخل دولي برعاية الأمم المتحدة، تحت البند السابع كما يشاع في كتابات الكثيرين، فالسودان عضو في الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي كمنظمة إقليمية، وغيرها من منظمات إقليمية كالجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي، فمن حيث الموقف السيادي، أو الاعتبارات السيادية للدولة السودانية التي تعني في هذا السياق الظرفي السياسي (مجلس السيادة الانتقالي) بشرعية الأمر الواقع برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، الطرف الرئيس في النزاع الدائر ضد قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي خرجت أو تمردت، حسب وصف الجيش السوداني لها؛ ترفض تدويل المسألة السودانية، وتركز منذ اندلاع الحرب على الحسم العسكري في غضون أسابيع، كما رجحت تقديراتها العسكرية، وكذلك موقف الطرف الآخر الدعم السريع الذي يرتكز على تداخل في علاقات إقليمية غير معلنة، تدعمه في حربه على طريقة السيناريوهات في دول المنطقة العربية والتدخلات العابرة للحدود، فقد أدى الوضع السياسي القائم منذ حكومة الفترة الانتقالية، التي أعقبت سقوط البشير ونظامه في 2019 إلى وجود الأمم المتحدة، ممثلة في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة الانتقالية في السودان (UNITAMS) برئاسة المبعوث الأممي فولكر بيرتس لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، بطلب من حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك. وعندما اندلعت الحرب طلبت حكومة انقلاب عبد الفتاح البرهان من الأمين العام للأمم المتحدة، اعتبار مبعوثها الأممي في السودان شخصا غير مرغوب فيه الطلب الذي قابله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالرفض، وقام بتجديد ثقته فيه. أما على المستوى الإقليمي فقد رفضت الحكومة السودانية مبادرة الهيئة الحكومة للتنمية لدول شرق افريقيا (الإيغاد) لحل المشكل السوداني، التي اعتبرها احتلالاً وانتقاصا من سيادة السودان. وبهذا يكون الموقف الدولي للتعامل مع الأزمة، قد ازداد تعقيدا مع تأجيل الوساطة السعودية الأمريكية بجدة على مستوى المبادرات الدولية والإقليمية، مستنفداً الحلول وفاتحاً الباب أمام استمرار الصراع الدائر واتساع رقعته.
وتطبيقاً للفصل السابع الذي يمهد للتدخل الدولي، حسب التهديد الذي يشكله أي صراع من تهديد على السلم والأمن الدوليين، في سياق نص الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فالحرب الحالية آخذة في التمدد على مستوى دول الجوار، مع تداخلاتها الإثنية، ويمتد أثر الحرب إلى خارج دائرة مركزها، كما هو الحال في اندلاع الاشتباكات على المدن الحدودية، وافواج اللاجئين الفارين من المعارك، ولكن تطبيق الفصل السابع بمواده، التي تتيح استخدام القوة لردع المتنازعين، بعد استنفاد كل وسائل الضغط والعقوبات، يكون مستبعداً في الحالة السودانية على الأقل في الوقت الراهن. لقد كانت الاستجابة الدولية منها والأممية بطيئة قياسا إلى حجم الكارثة التي تسببت فيها الحرب التي لا تقارن بحالة الحرب الأوكرانية الروسية. فقد شهدت انتهاكات دارفور على مدى عشرين عاماً، فظائع تدخل في باب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ـ الذي عاد مجددا – وفشلت الجهود الدولية في إيقافها وأخيراً تم التوصل إلى قوة هجين بين الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة كقوات حفظ سلام. فإذا كانت النماذج ذات الصراعات عالية الوتيرة في هاييتي ورواندا والصومال والبوسنة والهرسك، استجابة التدخل الدولي في القرن الماضي، فقد اختلفت مصالح وتقاطعات طبيعة النزاعات وعلاقتها مع الدول المهيمنة على مجلس الأمن الدولي المناط به التوصية بالتدخل المطلوب، فلا يؤمل مثلا أن يتدخل حلف شمال الأطلسي الناتو حفاظاً على أرواح السودانيين مثلما حدث في ليبيا القذافي!
الحالة السودانية تستدعي تدخلاً عاجلاً في ظل الأوضاع التي خلفها الصراع على المستوى الإنساني، إن حالات النزوح واللجوء واستمرار الصراع بطريقة لم تشهدها المدن السودانية، تستدعي التدخل تحت أي غطاء وبند. وكما أن التدخل الإنساني له تفسيراته ومعاييره غير المحددة قانونا متى وكيف ومن يملك حق إصداره، وكل ما يتعلق بقضاياه القانونية السجالية، إلا أنه في نهاية المطاف لا يقع إلا تحت طائلة العون الإنساني الذي تضطلع به منظمات غير حكومية، تحاول إيصال المساعدات على أن تؤمن لها طرق آمنة من قبل أطراف الصراع. فمعاناة السودانيين الآنية كضحايا لحرب يجهلون منطلقاتها وأهدافها، سوى صراع على السلطة يخفي وراءه إحناً أيدولوجية متهورة أكثر من تعارض المعاني والتفسيرات في ديباجات القوانين والمواثيق الدولية، فأي تدخل يستلزم قوة تفرض وجوده وتنفذه بما يحقق حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية.
وككل حروب العالم الثالث بطبيعة ما يرتكب فيها من انتهاكات، تُعد في السياق القانوني الدولي ضمن جرائم ضد الإنسانية، تدين مرتكبيها بإيصالهم إلى محكمة الجنايات الدولية، وهذا بطبيعة الحال لا يحقق عدالة سيطول انتظارها يأمل فيها ضحايا الحروب، والأمثلة تعصى على الحصر. فالسودانيون في محنتهم الإنسانية التي تسببت فيها حروب الجنرالات على مدى عقود، يتطلعون إلى وقف هذا الصراع الدموي، أيا تكن وسائله ومن أي جهة يكون في دائرة تفويضها حماية الحق في الحياة. فإذا كان التحليل السياسي لواقع مآلات الحرب غير قابل أو يعصى على التطبيق في واقع دولة تضاربت وتداخلت فيها السياسات والاتجاهات والمصالح، ومن ثَّم أصبحت الدولة تنازعاً بين فرقاء الحرب في بلد متخم بتنازع هوياته على أسس عرقية، تستقطع مكونات الدولة، لا على قانون الدولة السائد وإنما على قوانين المجموعات العرقية. فأصبح النزاع بين مواطني الدولة الواحدة، حتى إن لم يؤد إلى انفصال كامل، ولكن يفضي إلى اعتراف رمزي بأحقية مجموعة دون أخرى بأحقيتها التاريخية في السلطة، مما يثير ويحرض على المزيد من الانقسام في بنية الدولة الاجتماعية. أصبح التدخل ملزماً ولا بد أن يحدث دولياً بصيغة دولية ما للفصل بين المتحاربين مهما طال أمد الحرب وعندها لن تصمد شعارات الحرب من سيادة ووطنية التي يرفعها كل فريق.
كاتب سوداني