لن يكون غريبا أن نبتدر مقال هذا الأسبوع بنفس ما ابتدرنا به مقال الأسبوع السابق، عندما كتبنا أن الوضع في السودان يتفاقم ويزداد تعقيدا وتأزما مع كل صباح جديد، ولا تلوح في الأفق أي حلول أو مخارج، بقدر ما تتأكد بوادر ملامح الفوضى غير الخلاقة ومظاهر انهيار الدولة. ونضيف، ربما يمكننا التعايش مع التأزم السياسي لفترة أطول، ولكن التأزم الاقتصادي عندما يدخل اللحم الحي، بمعنى إصابة البلاد بالشلل الاقتصادي وإقترابه من اجتياح أسباب العيش في أدنى مستوياتها، فإنه لن يمهلنا ذات الفترة، أو أقصر منها، قبل انفجار الفوضى والانهيار. والتوقعات، مدعومة بما توفر من معلومات، تشير إلى أن البلاد قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الاقتصادي الشامل، وعندها لن يُنقذ الوضع أي من المبادرات أو المواثيق المطروحة اليوم، وستنحدر البلاد سريعا إلى مستنقع الفوضى والحرب الأهلية.
ومع تفاقم الأزمة في البلاد، تزداد أعداد المواثيق المطروحة من هذه الجهة أو تلك، والتي تتشابه محتوياتها حد التطابق، مع إختلافات شكلية في اللغة والصياغات، والبعض في المقدمات والفذلكة التاريخية. فكل هذه المواثيق تطرح اسقاط الانقلاب ولا شراكة مع العسكر، التمسك بحكومة انتقالية مدنية، تفكيك نظام الانقاذ، مراجعة وتقويم إتفاقات السلام، العدالة والعدالة الانتقالية، قيام المفوضيات القومية المستقلة، إصلاح المنظومة العدلية، إصلاح المنظومة الأمنية وحل الميليشيات المسلحة، إصلاح الخدمة المدنية، إصلاح الحكم المحلي، صناعة الدستور، إعادة هيكلة النظام المصرفي، سياسة خارجية متوازنة، الانتخابات، قضايا مشاركة الشباب والمرأة…الخ. وبالطبع، كل هذه القضايا وغيرها تشكل محتوى تدابير الفترة الانتقالية، وبإستثناء مسألة الشراكة، فمعظمها مضمن في الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الإنتقالية منذ 17 أغسطس/آب 2019 وحتى تاريخ تمزيقها بإجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي الانقلابية. الغائب عن كل هذه المواثيق والمبادرات، أن يتبعها حراك ملموس ليضعها في وضعها الطبيعي ويجسدها كخيط رابط بين كل الجهات التي بادرت بها لتنتظم في منبر موحد، خاصة وأن أوجه الشبه بين محتويات هذه المواثيق تكاد تكون متطابقة كما أسلفنا. بخلاف ذلك، ستظل هذه المواثيق وكأنها مجرد إبراء للذمة أو تسجيل موقف للتاريخ.
من الواضح نحن نحتاج إلى ثلاث خطوات رئيسية، أولها توحيد المشتركات في مختلف المواثيق والمبادرات المطروحة في الساحة، وإدارة نقاش شفاف بين أطرافها حول ما بينها من اختلافات وصولا إلى توحيدها. وفي هذا الصدد أعتقد أن مبادرة مدراء الجامعات السودانية قد قطعت شوطا كبيرا في هذا الإتجاه، إذ تواصل بذل الجهود لتوحيد هذه المواثيق ولخلق أرضية مشتركة بين قوى التغيير المدنية، غض النظر عن حجم أي من هذه القوى أو أطروحاتها فلها التحية مرة أخرى.
السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة من أجل التحول الديمقراطي وانقاذ الوطن، ولا يعقل أن تظل القوى المدنية بهذا التشرذم والتشظي والذي لن ينتج سوى المزيد من التأزم والفشل
وفي ذات المسار تسير مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم، فلها التحية أيضا، ونتمنى أن تتكامل جهود المبادرتين وتتوحدا في مسار واحد مع المبادرة الأممية والتي أوكل أمر تنفيذها إلى بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان (يونيتامس). الخطوة الثانية هي استخلاص خريطة طريق عملية بالتفاصيل المطلوبة، وليس مجرد العموميات والشعارات، لمحتوى الحل الممكن لمعالجة المرحلة الحرجة الآنية من الأزمة. ومن الضروري التشديد هنا بأن أي حلول مطروحة يجب أن تعكس نبض الشارع وتطلعات شباب لجان المقاومة. أما الخطوة الثالثة، فتتمثل في الماعون أو المنبر القيادي الموحد الذي يحقق وحدة إرادة التغيير بين مختلف القوى المنضوية إليه لتنفيذ تلك التفاصيل المشار إليها، والتي تنطلق من فرضية أن صيغة الشراكة بين المكون العسكري والمكون المدني، والتي ظلت تحكم الفترة الإنتقالية منذ بدايتها، قد فشلت تماما، كما أشرنا في مقالنا السابق. وبالطبع، فإن الخطوات الثلاثة هذه قد تأتي متشابكة ومتداخلة دون الفصل التعسفي بينها.
السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة من أجل التحول الديمقراطي وانقاذ الوطن، ولا يعقل أن تظل القوى المدنية بهذا التشرذم والتشظي والذي لن ينتج سوى المزيد من التأزم والفشل. أما إستمرار التشظي والانقسام فيؤكد الإتهامات بأن هذه القوى لا تستفيد ولا تتعلم من الأخطاء التي ترتكبها، بل وتكررها للأسف، كما أنه يؤكد أيضا حالة عمى البصيرة التي تتملك هذه القوى فلا ترى موقف الشك وعدم الثقة الذي يتملك الشارع ولجان المقاومة تجاهها، مثلما لا ترى أن في مواجهة هذا التشظي يتحفز الأكثر تنظيما وتماسكا، ونعني القوى المتربصة بالثورة والتي ضربت الثورة مصالحها، لاستغلال أي سانحة للتقدم خطوة لصالح إستعادة مطامعها السياسية والاقتصادية، فتجر البلاد خطوات إلى الوراء، وربما إلى مستنقع الحرب الأهلية. والجبهة الواسعة من أجل التحول الديمقراطي وإنقاذ الوطن، مثلما تقول تجارب السودان الثرّة في هذا المضمار، مفتوحة لكل الأحزاب والمنظمات والتيارات السياسية والاتجاهات الفكرية والشخصيات، في كل أنحاء البلاد، والتي تناضل عملياً من أجل المضي قدما بثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة إلى غاياتها المرجوة في تحقيق التحول الديمقراطي وتحقيق السلام وإعمال العدالة وسيادة حكم القانون، ومن أجل هزيمة أي محاولات إنقلابية والتحصن ضدها وضد أي محاولات لسلب إرادة الشعب وقمع حرية التعبير والتنظيم والضمير، ومن أجل دحر محاولات العودة لتقنين ممارسات الإعتقال السياسي وصون حقوق المواطن الأساسية من أي تغول من جانب الدولة. والجبهة الواسعة من أجل التحول الديمقراطي وإنقاذ الوطن تقوم على احترام الاستقلال السياسي والتنظيمي والفكري لكل الأطراف المشاركة فيها، وحق كل طرف في مواصلة نشاطه من منبره الخاص، السياسي أو الفكري، دون وصاية أو اكراه، كما أنها لا تغرق وتحبس نفسها في جدل عقائدي، أو في ترهات التخوين والنيل من الآخر الحليف، مثلما لا ينحصر نشاطها في العمل الفوقي الصفوي المعزول عن المشاركة الشعبية الواسعة، مع ضرورة احترامها وتعاطيها الإيجابي مع ما تطرحه هذه القواعد الشعبية.
كاتب سوداني