في الذكرى الثانية لثورة السودان نقول، لا شيء يهزم الإحباط ويُشرع نوافذ الأمل للسير بالثورة حتى تحقق أهدافها، غير إرادة جماهيرية قوية تتلمس طريقها عبر حراك متماسك ومنتظم في مركز واحد، وعلى خطى قيادة واعية، تطرح شعارات محددة وموحدة، تخطط وتعبئ، بعيدا عن توافه الأمور ومناصبة العداء مع رفاق الخندق الواحد. ونقول أيضا، لا بديل سوى الضغط الجماهيري، الواعي وليس الطائش، لوضع الأمور في نصابها، ولنقف وقفة حاسمة، ننشط خلالها ذاكرتنا المتصلة ونقويها، حتى لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتضعها في الحسبان، من أجل التركيز على الأولويات، ومن أجل وقف النزيف اليومي في البحث عن لقمة العيش والحقوق الضائعة في وطن مرهق، بعيدا عن التدليس ولعبة الاستغماية التي كان يلعبها النظام البائد طوال ما يقرب من نصف عمر إستقلال بلادنا، واليوم، يواصل من لا ذاكرة له الإستمرار في ذات اللعبة.
في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018 ولما كان واقع السودان يحمل نذر الفاقة والفقر والعطالة واحتكار فرص سوق العمل واحتمالات التهميش، خرج الشباب إلى ساحات التغيير حتى لا يرهنوا حاضرهم ومستقبلهم لخيارات البحث عن المنافي أو المخدرات، معلنين أن ثورتهم أبدا ليست إنتفاضة جياع، ولا ترتبط بأهداف سياسية بحتة وآنية، بقدر ما هي ثورة جيل بأكمله، هبّ ليحطم جدارا شيدته الإنقاذ حاجزا يسد أمامهم الأفق والأمل في المستقبل.
وفي الذكرى الثانية لإندلاع الثورة، خرج ذات الشباب إلى الشوارع، ليؤكدوا، مرة أخرى، أن خروجهم ليس إنتصارا لهذا الحزب أو ذاك القائد، وليس تعصبا لهذه الأيديولوجية أو تلك الفكرة، وقطعا ليس طمعا في كراسي الحكم أو وظيفة ما، رغم أن جلّهم بدون عمل أو وظيفة، أمتلأت بهم الشوارع والساحات، عناقا وهتافا، لا فرحا بذكرى الثورة، وإنما غضبا وإشهارا بأن الكيل قد طفح، وأن الفرحة تذوي وهم يشهدون أحلامهم وآمالهم تُخنق بين أرجل من توسموا فيهم المعرفة والحكمة والتشبع بروح الثورة، في حين هولاء يتصرفون، وكأن الثورة لم تمر أمام أعينهم، ناهيك أن تلمس أوتار أحاسيسهم. إن من أهم سمات الإنسان السوي اليقظ الضمير، وقوفه مع ذاته ومراجعة النفس في كل أدائه وتصرفاته في الفترة التي مضت من مسار حياته، تصحيحا وتطويرا للمسار القادم. وأعتقد أن الكثيرين يفعلون ذلك يوميا، فلا ينامون ليلا حتى تراجع ذاتهم ما فعلته في نهارهم، ويستوي في ذلك الطالب والموظف ورب الأسرة، وغيرهم. لكن وقفة الذات عند من يتعامل مع الشأن العام، وخاصة المسؤول عن الرعية الذي يدير شؤون البلاد وناسها، تختلف تماما عن غيرها، لأنها تتعلق بمصائر البشر والأوطان.
لا سبيل سوى العمل بشتى الوسائل، ودون كلل أو ملل، على أن تستمر جذوة الثورة متقدة، لا تهمد أبدا، وتتغذى يوميا بالوقود الكافي المتمثل في تسخير إمكانات وإبدعات الشباب في إجتراح الوسائل والأدوات المتجددة
ولهذا السبب هي تكتسب معنى ومحتوى شديد الحساسية وشديد الخطورة، خاصة عندما يتعامل هولاء المسؤولين مع المنعطفات والمنعرجات الدقيقة والحرجة التي تمر بها بلدانهم وأقوامهم. وأعتقد، من الصعب تخيل تمتع أي قائد أو مسؤول بسمات الانسان العاقل السوي اليقظ الضمير، إذا لم يقف مع ذاته ويراجع أدائه ومساهماته ودوره إزاء مسار الفترة الانتقالية التي تعيشها بلادنا اليوم. وأيضا، أعتقد من الصعب أن نجزم بأننا على دراية بحال أي من هولاء القادة، وكيف سيعبر كل منهم عن وقفته الخاصة مع الذات، كما لا أستطيع القول إن كان هولاء القادة والمسؤولين ينامون كل ليلة، ونفوسهم راضية وضمائرهم مرتاحة، تجاه أدائهم في إدارة الفترة الإنتقالية، وتجاه إنعكاسات نتائج هذا الأداء على الوطن والمواطن.
وكما كتبنا أكثر من مرة، من الصعب تحقيق أهداف الثورة الرئيسية بضربة لازب، وإنما الأمر سيتطلب فترة، قد تكون طويلة نسبيا، وربما سنحتاج إلى ثورات فرعية أخرى حتى تتحقق الأهداف. وهذا ليس أمرا غريبا، فثورة السودان، مثلها مثل كل الثورات الاخرى في التاريخ، قد تحتاج للمرور بعدة مراحل قبل ان تكشف عن كل إمكانياتها وتتبلور في نهاية الأمر بوصفها تكويناً جديداً جذرياً.
وفي الحقيقة، فإن ثورة السودان دشنت مرورها بهذه المراحل بدءا بثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، ثم إنتفاضة أبريل/نيسان 1985، ووصولا إلى المرحلة الراهنة بإندلاع ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019. صحيح، أن إستقرار وتحقيق أهداف الثورات الأخرى في التاريخ، تطلب فترات طويلة جدا، مثلما كان الأمر في فرنسا بعد إندلاع ثورتها العظمي 1789، وبريطانيا في اعقاب ثورة كرومل 1649، وألمانيا بعد ثورة 1818. بل، ومثلما هو الأمر في السودان نفسه من حيث طول الفترة بين ثورتي أكتوبر/تشرين الأول 1964م، وثوره ديسمبر/كانون الأول 2018، والتي بلغت 54 عاما. لكن، تلك الثورات، بما فيها ثورات السودان، كانت في ظروف مغايرة تختلف كليا عن واقع اليوم، من حيث قلة إو إنعدام التجارب السابقة بالنسبة لتلك الثورات، ومن حيث المهارات والقدرات المكتسبة عند قوى الثورة اليوم مقارنة بقوى الأمس، ومن حيث دور الثورة الرقمية والتكنولوجية الحديثة في تفجير الثورات وتقصير الفترات بين مراحلها، ومن حيث آثار العولمة ودور الظروف الإقليمية والدولية في عالم جديد…الخ.
كل ذلك سيقلل، إلى حد كبير، طول الفترة بين المراحل المختلفة للثورة. لذلك عندما أتحدث عن تداعي ثورات فرعية لثورتنا الراهنة في السودان، فإنما أشير إلى إمكانية حدوثها خلال شهور أو أعوام قليلة. وعموما، إذا ما أردنا أن تصل ثورتنا إلى الغايات المرجوة، فلا سبيل سوى العمل بشتى الوسائل، ودون كلل أو ملل، على أن تستمر جذوة الثورة متقدة، لا تهمد أبدا، وتتغذى يوميا بالوقود الكافي المتمثل في تسخير إمكانات وإبدعات الشباب في إجتراح الوسائل والأدوات المتجددة يوميا، والحذر من الفخاخ المنصوبة تجاه الثورة لكي تنطفئ شعلتها أو تضعف شحنتها أو تبرد نارها. وبالنظر إلى ما يبدعه شباب السودان اليوم، فإن درجة الإطمئنان عندي أكبر بكثير من درجة القلق.
كاتب سوداني