خلصنا في مقال سابق تحت عنوان: «عمر البشير: نهاية مستبد عنيد» إلى أن النظام السوداني السابق كان في آخر عهده محاطاً بالأعداء، ليس فقط من أولئك التقليديين من مجموعات اليسار السياسي أو غيرها من الفصائل المتمردة، التي كانت ترى في سلطة «الإنقاذ» خطراً لا يمكن التعايش معه، ولكن أيضاً من مجموعات وتيارات كانت حتى وقت قريب، إما جزءاً من النظام، أو شديدة القرب منه.
لم يقتصر الأمر على الانشقاق الكبير الذي أدى لخروج مجموعة حسن الترابي، الذي كان يمثل عرّاب النظام ومفكره الأهم من هرم السلطة، بل تعدى الأمر ذلك لشخصيات مؤثرة كانت مقربة من الرئيس البشير، كغازي صلاح الدين الذي بدأ مفاوضاً للمتمردين، وانتهى معترضاً على طريقة التفاوض، ثم على طريقة إدارة الدولة، ما أدى إلى إقصائه وتشكيله حزباً معارضاً.
الانشقاقات والاعتراضات داخل نسيج السلطة لم تقتصر على هذا، في الواقع فإن البشير كان مسؤولاً بشكل أو بآخر عن تكثير أعدائه، فمع كل تقدم له في العمر والحكم، كان يزداد استبداداً ورعونة، كما كان يفقد القدرة على التفريق بين حلفائه الذي يقدمون له نصائح قد تكون قاسية حول إدارة الدولة وتخفيف القبضة الأمنية، وإتاحة الحريات والفرص لتداول السلطة، وأعدائه الذين كانوا يزينون له البقاء في السلطة والتعامل بحزم مع المعارضين من الخارج والمعترضين من الداخل.
في نهاية المطاف اختار البشير مجموعة ضيقة من المستشارين الذين كان يظن أنهم سيكونون الأحرص على ما اعتبرها المصلحة العامة، فأصبح أكثر اقتراباً من رفاقه العسكريين، وتم تشكيل ما يعرف باللجنة الأمنية، التي ستلعب للمفارقة، دوراً أساسيا في هندسة الانقلاب عليه، وتشكيل نظام الحادي عشر من إبريل/نيسان. عمل البشير كذلك على تقريب عدد من الأسماء المدنية المغمورة، التي كان مطلوباً منها سد فراغ استبعاد الأسماء الكبيرة التي كانت، حسب تقييم البشير، ومن يثق بهم من مستشارين، غير موالية بما يكفي. ازدادت الخلافات والاحتكاكات، بعد إصرار البشير الهستيري على إعادة الترشح في عام 2020 وبعد فشل محاولات إثنائه عن ذلك بطريقة العرقلة الحزبية، حيث بادر البشير، الذي كان وعد سابقاً بعدم الترشح، إلى اللعب في آليات الحزب، وإلى ممارسة ضغوط مختلفة، بحيث لا يجرؤ أحد على الاعتراض بشكل مؤثر على إعادة ترشيحه.
هنا برز تياران: التيار الأول هو الإصلاحي، الذي كان يرى أن عرقلة ترشح البشير هي الوسيلة الوحيدة لإحداث تغيير في الحزب، وفي طريقة إدارة الدولة التي كانت مكبلة بكثير من القيود بسببه، أما التيار الثاني فهو لوبي المصالح الذي كان يرى أنه سيتضرر من أي تغيير مفاجئ في هرم السلطة، لاسيما إذا تمت تنحية البشير الذي كانوا يستفيدون من علاقتهم به في تيسير أمورهم مقابل دعمه في كل توجهاته. الرهان على ولاء لوبي المصالح هذا، مقابل تيار الإصلاح كان جيداً في البداية، لكن هذا اللوبي لم يكن بإمكانه تعويض خسارة فقد المجموعات العقائدية التي كانت ترتبط ارتباطات تنظيمية وفكرية بالسلطة. ليس هذا فقط، ولكن ما لم يكن يدركه البشير هو أن حلفاءه الجدد لا يحبونه بقدر ما يحبون مصالحهم، وهم معه ما لم تتضرر هذه المصالح، كما أنهم مستعدون لبيعه وموالاة غيره إذا ما ضمنوا أن وضعهم المالي ومكانتهم الاجتماعية لن تتأثر/ وهو ما حدث فعلاً مع بعض الأسماء التي ظلت باقية وعابرة للعهود.
حدوث تململ اجتماعي من قبل الأغلبية المهمشة، ربما يمتد لصناعة تغيير حقيقي قد يعدل قواعد اللعبة كما قد يغيرها بشكل جذري
كل ما سبق كان على مستوى دائرة الحكم الضيقة، أما على مستوى الإسلاميين الأكبر، ورغم أن النظام كان مصنفاً كأحد أهم الأنظمة الإسلامية في المنطقة، إلا أنه كان في الواقع، مواجهاً بعدة سهام إسلامية، حيث برز عدد من الأئمة والدعاة الذين كان نقد ممارسات النظام عنصراً أساسياً من خطاباتهم وخطبهم، وكان لأولئك أبلغ الأثر في انهيار وتساقط شرعية النظام، المبنية على ادعاء الحكم الإسلامي، حيث كان أولئك الدعاة يركزون على البعد الشاسع بين قيم الإسلام وممارسة السلطة السياسية على الأرض، كما كانوا يؤكدون على التناقض بين الحكم بالإسلام وتفشي الظلم والفساد. هذا الدور كان شديد الأهمية وقد استمر إبان الاعتصام، وتم توظيفه من قبل المحتجين، عبر إتاحة الفرصة لصلاة الجمعة والجماعات من أجل دحض الدعاية الحكومية التي كانت مبنية على أن حركة الاحتجاج كانت برعاية الشيوعيين وغيرهم من الناشطين المعادين للدين. دور الخطباء والأئمة في تشجيع المحتجين ودفعهم للحفاظ على حقوقهم، وتذكير السلطة بواجباتها في حمايتهم، مع تحذيرها من خطر إراقة دماء الأبرياء، هذا الدور لم يتم تسليط الضوء عليه بشكل كافٍ، حيث فضل متحمسو النظام الجديد وضع جميع العلماء والأئمة في طبق واحد، واعتبارهم مجرد تجار دين متحالفون مع النظام السابق، بغض النظر عن مواقفهم. الطريف هنا هو أن هذه الاتهامات لم ينج منها حتى الخطيب الأشهر في ساحة الاعتصام، حيث تم الهجوم عليه بشدة، حينما تجاوز نقد النظام القديم لنقد الواقع السياسي والاقتصادي الناشئ. كان لهذه الخطب والدعاية دور مهم في تشجيع الشباب وتنظيمهم لأنفسهم، كما كان لها دور في تجاوز جدلية كراهة الخروج على الحاكم المسلم، حيث بات كثيرون مقتنعين بضرورة اقتلاع الرئيس ونظامه، الذي يقدم صورة سلبية عن الدين. دور أولئك الشباب الذين شاركوا في التظاهرات من أجل حماية الإسلام، وليس من أجل الخروج على أحكامه، كان أيضاً مغموراً، في حين فضل النظام الجديد خلق أيقونات جديدة من الأسماء اليسارية والليبرالية، والعمل على تصوير الثورة كثورة للخروج على النظام فقط لأنه كان إسلامياً. بجانب كل هذه العناصر كان هناك دور بلا شك لأعضاء وقيادات الأحزاب اليسارية كالشيوعي والبعثي وغيرهما، إلا أن هذا الدور لم يكن شديد التأثير، فبالإضافة إلى حقيقة أن عضوية هذه الأحزاب لم تشكل إلا نسبة قليلة جدًا من المتظاهرين، كان هناك عامل آخر وهو أن هذه الأحزاب لم تكن على صلة جيدة بالأجهزة الأمنية والعسكرية، وكانت بذلك غير قادرة على التنسيق معها أو توجيهها، بل إن العكس هو الذي كان يحدث، حيث نجحت هذه الأجهزة، وما تزال، في قيادة هذه الأحزاب ودفعها لدفع الحراك الشعبي في الاتجاه الذي يخدمها ووفق الواقع الذي تصبو إليه.
الذي حدث هو أنه، وبتنسيق لا غنى عنه مع العسكريين، استطاعت الأقلية الحزبية، ليس فقط أن تتحدث باسم الحراك، ولكن أيضاً أن تنفرد بقيادة الفترة الانتقالية، بعد صناعة ما سمي بالوثيقة الدستورية، التي عكفت عليها مجموعة من السياسيين متوافقي الرؤى. كان التوزيع والمحاصصة الحزبية واضحين منذ البداية، رغم نص الوثيقة على تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، والبعد عن المحاصصة والتسييس من أجل إتاحة فرص أرحب لعموم السودانيين في الوظائف العامة. المحاصصة أضحت أكثر وضوحا في التشكيل الحكومي الأخير، حيث تم إعطاء أحزاب الأقلية، التي بدأت تتصرف وكأنها ربحت الانتخابات، الحق المعلن في تقاسم السلطة. الذي يحدث الآن من تململ اجتماعي من قبل الأغلبية المهمشة ربما يمتد لصناعة تغيير حقيقي قد يعدل قواعد اللعبة كما قد يغيرها بشكل جذري.
كاتب سوداني
فى سنتان فصلوا الدين عن الدولة ” زادت الديون, قيمة الجنيه هبطت, ارتفعت الاسعار, كثر الخبث و الضحك على الناس, الضحك على الشعب بما يسمى ديمقراطية, واخيرا وليس اخرا السلام القاتل للسودان مع الصهاينة.
أكذوبة الدولة المدنية… والحل مع التطبيع ….. حجة العسكر الجديدة في الاستيلاء على الحكم……. …… والنتيجه ما ترونه من ضبابية وانهيار في دولة السودان على مختلف الصعد …..أيعقل أن يأتي الازدهار والتنمية والرفاهية والعدالة والحرية من تحت بساطير العسكر ؟!