يدخل التعامل الأمريكي مع السودان تحت طائلة البلطجة الدولية الصريحة، وتستغل واشنطن نفوذها لتساوم الخرطوم على رفع الحظر، الذي يفترض أن مبرراته لم تعد قائمة أصلاً، مع إزاحة نظام الحكم السابق ورئيسه عمر البشير، وأمام حكومة سودانية تحاول ترتيب أوراقها. كانت مهمة الأمريكيين في الابتزاز تبدو على شيء من السهولة، لتتعهد السودان بدفع مبلغ باهظ قياساً بظروفها الاقتصادية، للضحايا الأمريكيين في تفجيرات السفارات الأمريكية في نيروبي ودار السلام.
الأصل أن يتم رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإنهاء العقوبات الاقتصادية، التي كبدت السودان مئات المليارات من الدولارات، بغض النظر عن تعويضات لأفراد أمريكيين حصلوا على أحكام قضائية من محاكم أمريكية، وأمام عملية فراغ في الكفاءات الدبلوماسية السودانية، التي تفككت في عصر البشير، فإن المعركة بدت خاسرة منذ اللحظة الأولى، واستسلمت الخرطوم للأولويات الأمريكية بعد أن قدمت تنازلات متسارعة.
تقديم تنازلات بانتظار الخروج من قائمة أمريكية، أصبح واضحا أنها تستخدم وفق الأهواء الأمريكية أمر لا يتصف بالحكمة
يدرك المجلس الانتقالي السوداني أنه يقامر سياسياً باندفاعه تجاه التطبيع مع إسرائيل، فالسودان يعيش حالة من السيولة السياسية، ويمكن أن يصنف الشعب السوداني من خلال تاريخه الحديث، بأنه أحد أقل الشعوب العربية ميلاً للإذعان طويل المدى، ويضاف إلى ذلك طبيعة الحكم الانتقالي في كل مكان، ولذلك فالتطبيع لا يمكن أن ينضج سودانياً، بالوتيرة المتوقعة أمام الواقع الراهن، وسيعتبر تنازلاً غير ضروري ومتعجلا، يقدم بوصفه خدمة لسياسة انتهازية يطبقها رجل يؤمن بصفقات يجب أن تميل لمصلحته، قبل أي شيء، فترامب ليس بابا نويل السياسة العالمية، والضغط الذي يضعه على السودان، ليس صفقة مشتركة مع السودان، بقدر ما هو تقديم السودان على طبق من ذهب لحلفائه الذين يحاولون إنجاز «صفقة القرن» من خلاله.
يعيش السودان تحت ضغط الوقت والظروف الاقتصادية المزرية، ومع عدالة مطالبها، بإزاحتها من قائمة دولية غاشمة، يبدو أن الولايات المتحدة تحتكر إضافة أو حذف الدول منها، إلا أن ما يحدث هو العودة إلى الأمريكيين بوصفهم الخصم والحكم، وكم كنا نتمنى أن يخوض السودان معركة سياسية ودبلوماسية من أجل الخروج من تحت وطأة الاستغلال الأمريكي، الذي يتصف بالغطرسة والفجاجة، وأن يتواصل مع الأوروبيين وغيرهم من القوى العالمية، من أجل إثبات جدارته بأن يعود عضواً فاعلاً في المجتمع الدولي، بغض النظر عن قائمة الشروط الأمريكية المجحفة. تأرجحت سياسة البشير الخارجية بين الحلفاء، من إيران إلى تركيا، وتأرجحت مواقفه مع مصر وإثيوبيا، وكان بحثه عن الشرعية في أي علاقة دولية، خاصة بعد المطالبة بمحاكمته دولياً، يلقي على السودان أثمانا سياسية هائلة، ويجبره على تقديم تنازلات هائلة من أجل المحافظة على رأس رجل واحد، ويجب على السودانيين ألا يقعوا في ذلك الفخ من جديد، وأن يتعلموا من دروس ثورات الربيع العربي، وأن يعرفوا بأن بقاءهم في الشوارع هو الحل الوحيد والمنطقي للخروج بأفضل ما يمكن من النتائج، خاصة مع إدراج ما يمكن وصفه باستقلالية السودان على مستوى علاقاته الخارجية على أجندة مطالبهم.
ليست المسألة أن يستسلم السودان ليربط خروجه من الحظر بالتعويضات لأسر الضحايا الأمريكيين، أو يقدم التطبيع بوصفه دليل حسن النوايا الذي يدعم مطلبه المشروع، ولكن المسألة أن يمتلك السودان قراره الوطني بالكامل، أن يطبع السودان أو لا يطبع، يجب أن يكون قراراً سودانياً خالصاً قبل أي شيء، قرارا من الشعب السوداني، ويجب أن يتم من خلال قيادة واعية ومسؤولة، لا تقدمه في بداية التفاوض وقبل أن تحصل على أي شيء، فالتطبيع يعني الكثير بالنسبة لإسرائيل، فلماذا يقدم السودانيون ارضاء للولايات المتحدة وخطباً لودها.
يمكن أن يقال إن من يده في الماء لا يمكنه التنظير حول الأوضاع الاقتصادية الضاغطة في السودان، خاصة بعد الفيضانات الأخيرة، وأن يستشهد بأن تغريدة واحدة من ترامب أنعشت الجنيه السوداني بين ليلة وضحاها، ولكن هل كان في التاريخ العربي ما هو أسوأ من التفكير قصير الأمد، من المكتسبات الصغيرة التي أضاعت البوصلة عن الطريق الطويل، الذي كان على الدول العربية أن تقطعه منذ زمن طويل.
على السودان أن يكتسب الثقة في نفسه، وفي أهميته الجيواستراتيجية، وقدراته البشرية ودوره وسيطاً بين العرب والبحر المتوسط وافريقيا، وكلها ثروات تجعل التجرد من أوراقه السياسية، وتقديم تنازلات هائلة بانتظار مجرد الخروج من قائمة أمريكية، أصبح واضحاً للمجتمع الدولي أنها تستخدم وفق الأهواء الأمريكية أمرا لا يتصف بالحكمة، وسيبخس السودان كثيراً من حقوقه المستقبلية، ومع ذلك فالوقت ما زال متاحاً أمام السودان ليدخل في عملية الخروج من قائمة الحظر بعد أسابيع بشروط أفضل كثيراً، بعد خروج من ينتهجون السلوك الابتزازي في واشنطن من مواقعهم، أو على الأقل الاستسلام في حالة استمرار ترامب، ولكن مع ذريعة يمكن تقديمها للشعب السوداني، تجعله يكتسب الثقة في وجود رؤية لدى إدارته وفهماً حقيقياً لقيمة السودان وإمكانياته والفرص، التي يمكن أن تلوح أمامه مستقبلاً، إذا استطاع أن يحقق استقلالاً وطنياً، يتخلص من التبعية لأي طرف كان، وأن يصبح مرجعه النهائي مصلحة السودان وشعبه، وبغض النظر عما إذا كان سيذهب للتطبيع وقتها نتيجة مكاسب حقيقية تعود عليه، أو لا يذهب، ولكن أن يتم حل مشكلات الآخرين، فذلك غبن حقيقي للسودانيين وتهديد لمستقبلهم، أياً يكن ذلك الآخر، سواء كان نظاماً انتقالياً في السودان، أو رئيسا أمريكيا يبحث عن أي أصوات ضائعة هنا أو هناك، أو تحالفات مع رأس المال المتحيز لإسرائيل.
كاتب أردني
السودان لايمتلك المال الذي قد يجعل الراضين أو غير الراضين عن تطبيعه يبتلعون ألسنتهم، لذلك سيفضل الانزواء أو الابتعاد عن دائرته العربية (إن بقيت مجتمعة أصلا) عبر ترجيح البعد الإفريقي كهوية للدولة على حساب الانتماء العربي