السودانيون الذين كانوا يجلون أقرباءهم لدرجة دفنهم داخل بيوتهم، أصبحوا يشاهدون منجل الموت يحصدهم في الشوارع، ليخلف وراءه الجثث ملقاة لأيام، في مشهد يهدد بتفشي الطاعون في الخرطوم، هذه المخاوف استعرضها تقرير نشرته “بي بي سي” قبل أيام، ومع ذلك، تبقى الاستجابات العربية والدولية تجاه ما يجري في السودان متواضعة، ودون المستوى في أفضل الأحوال.
كيف وصل السودان إلى هذه النقطة؟ ولماذا تبدو الحلول بعيدة؟ وحتى النموذج العراقي بكل ما قدمه من فوضى مرعبة وموت عشوائي ومجاني كان يجد أمامه محاولات للاحتواء، ولو بتأسيس قوى تستطيع أن توفر الحماية على أساس مذهبي أو مناطقي، أما الحالة في السودان فتبدو بعيدة عن أي أفق للحل القريب، ولا توجد أي قوة تريد أن تدخل بثقلها في السودان، من أجل البحث عن مخرج للوضع القائم.
أزمة السودان أتت من تفككه من الداخل قبل أن ينعكس ذلك في صورة العنف الأهلي والتمرد الجهوي
في الحالة العراقية وجدت دول لا تريد أن تندفع الفوضى تجاهها، وأصبحت تدفع بالفوضى إلى داخل العراق، ولكن ذلك أدى إلى وجود قوى تستطيع تحقيق التوازن على الأرض، وتتمكن من تأمين مناطق نفوذ معينة، أما في السودان فالصمت الدولي مريب، مع أن حكومة البشير نفسها فتحت الطريق لأكثر من تدخل دولي، وجعلت السودان مطمعاً مفتوحاً للصراع على موقعه الاستراتيجي وثرواته الكبيرة، ولا تبدو هذه الدول مهتمة بوجود حالة من التهدئة في السودان، ولا في التوجه إلى حسم سريع ليكون حلاً لمشكلة السودانيين الإنسانية. دفع السودان في مرحلة مبكرة بتشكيل كيان شبه عسكري مدعوم من الحكومة المركزية بصورة غير مباشرة في حربها في دارفور، والجنجويد الذين أصبحوا أقوى من أن يتم تجاهلهم، تحولوا إلى مجموعة شبه رسمية وواصل الرئيس السابق عمر البشير تنازلاته للعفريت الذي حضره من أجل حل عرفي وقبلي لمشكلة تتعلق بالتنمية والحرية والكرامة في بلاده، من أجل ألا يتلبسه، وتحول قائد الجنجويد من مجرد رجل عصابات مسلحة إلى فريق أول في الجيش السوداني، ولأن الميليشيا التي ترأسها لم تكن تحمل أي فكر أو أيديولوجيا، سوى الرغبة في المزيد من المكتسبات والخروج الأناني من ربقة الفقر والحاجة، على مستوى جنودها الذي ولدتهم الأزمة التنموية نفسها، فإنها أصبحت ظاهرة مستغربة داخل المجتمع الدولي، لا يمكن فهمها على وجه كامل، ولا يمكن منحها أي ثقة، حيث لا توجد منظومة مبادئ في تشكيلها سوى التمدد والجشع تجاه السلطة والمال. الصبغة الانتهازية لنظام البشير وتنقله من تحالف إلى آخر، وبصورة غير مفهومة وغير متوقعة وغير قائمة أصلاً على المصالح بعيدة المدى، لم تجعل لأي طرف مصالح كبيرة في السودان تستحق أن يدافع عنها، كما يحدث حالياً في النيجر، حيث يوجد متنافسون واضحون يمكن أن يدفعوا بالتسخين أو يميلوا للتهدئة، وبالطريقة نفسها، كانت سياسته مع الأطراف الداخلية الفاعلة تقوم على سياسة غير واضحة أو مستقرة، وجميع سلوكياته العشوائية، كانت ثمناً يدفعه السودان بأكمله لنبذ الرئيس، بعد مذكرة توقيفه التي أصدرتها محكمة العدل الدولية.
ما يمكن فهمه من مدخل السياسة العربية والدولية تجاه السودان، وخروج الخرطوم صفراً أو خاسرةً من تحالفاتها، لا يمكن فهمه من مدخل الكارثة الإنسانية التي تستدعي التدخل السريع، من أجل تعويض غياب الدولة وجميع أدوارها في السودان، فما يحدث في الخرطوم هو صراع على ما تبقى من السلطة، بينما يعبر فراغ السلطة المرعب عن نفسه في بقية أنحاء السودان، فعمليات الاختطاف والقتل تتواصل في إقليم مثل دارفور، والمساعدات الإنسانية في حدودها الدنيا، وخروج المنظمات الدولية أصبح منهجياً، ولا توجد حلول لدى المجتمع الدولي، ولا نية من أجل التدخل بما يمكن من قوة فاعلة على الأرض. دفعت الأزمة السودانية ببعض الشخصيات المؤثرة لتلفت الانتباه لما يحدث على مستوى السياسة الدولية تجاه الأزمات، فيقول، الرئيس السابق لمجلس اللاجئين النرويجي وليام كارتر، أن نظام التمويل الإنساني العالمي عنصري بشكل صارخ، خاصة مع مقارنة الاستجابة في السودان لما يحدث في أوكرانيا، وكالعادة فإن حضور السودان يأتي خجولاً على ساحة الاهتمام والأولويات الدولية. أزمة السودان أتت من تفككه من الداخل قبل أن ينعكس ذلك في صورة العنف الأهلي والتمرد الجهوي، فالسودان الدولة القوية التي كانت تشارك في جهود التهدئة في المنطقة العربية في أزمات كثيرة، مثل أزمة العراق والكويت في الستينيات، وأيلول الأسود في الأردن، تحولت إلى دولة غائبة تقدم للعالم صورة قوية في وقت يتمدد فيه الخراب في أجهزتها ومؤسساتها، وتعايش هجرة متواصلة للعقول والكفاءات إلى الخارج، وما يمكن أن نتعلمه من تجربة السودان أنه لا توجد أسئلة تاريخية قابلة للتأجيل إلى الأبد، وأن صورة الدولة لا يمكن أن تعوض عن وجود الدولة، وأن الميليشيا ستجد الوقت والفرصة لأن تصبح شبحاً يخيم على الواقع، إذا كان الجيش منخرطاً في السياسة، وكل هذه المبررات ليست بالضرورة عاملاً يبرر التغاضي عما يجري في السودان، ولا ضمادة لتهدئة الضمير العالمي، أو ذريعة لتراجع التشاغل العربي المفترض في السودان.
*كاتب أردني