مواصلة لنقاشنا حول الأزمة الاقتصادية في السودان، نستعرض مختصرا للورقة التي مدنا بها الدكتور شمس الدين خيال، والتي يدعو فيها بقوة إلى إشراك قوى الإنتاج، كأساس للدولة الحديثة، في رسم السياسة الاقتصادية للخروج من الأزمة التي تمر بها البلاد، ولوضع ركائز نمو اقتصادي مستدام. وابتدر الدكتور شمس الدين مساهمته بانتقاد تركيز الحكومة الانتقالية على المعالجات المالية للأزمة الاقتصادية على حساب إهمال علاج تدني مستوى الانتاج ذي القيمة المضافة للمنتجات السودانية، الزراعية أو الحيوانية أو المعدنية، مؤكدا أن مسلك الحكومة هذا لعب دورا في سرعة تفاقم الأزمة. إن النجاح في عمليات تغيير أو بناء الهياكل والقواعد السياسية أو الاقتصادية، في أي بلد، يتوقف على أن تكون هذه العمليات نابعة من ديناميكية التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لقوى الانتاج داخل المجتمع. وما تطور اقتصاد الطاقة المتجددة، واقتصاد البنوك التعاونية، والاقتصاد التعاوني بصفة عامة، والاقتصاد الرقمي، أو ما يعرف بالاقتصاد الجديد، في الدول المتقدمة، إلا وليد هذه التفاعلات. وعلى النقيض، أثبتت تجارب الأنظمة التي كانت تعول على الجهاز البيروقراطي لدفع عجلة التطور الاقتصادي والاجتماعي، كأنظمة المعسكر الاشتراكي التي انهارت، محدودية قدرة هذا الجهاز في أن يكون أداة للإبداع أو سببا في إشعال ديناميكية التطوير الاقتصادي والاجتماعي، المعيشي والثقافي والسياسي، في البلد. ومن الواضح أن الصين، كدولة اشتراكية تحت قيادة نظام الحزب الواحد، قد انتبهت إلى هذه النقطة، وسارعت، بقرار من الحزب الشيوعي الحاكم، إلى تفادي الانهيار بالانتقال من النظام الاقتصادي البيروقراطي الي نظام اقتصاد السوق، والذي أساسه إشراك قوى الإنتاج، ممثلة في تنظيمات العاملين والإداريين، داخل شركات القطاع العام والجمعيات التعاونية، وخاصة في القطاع الزراعي، إشراكها في رسم السياسة الاقتصادية للدولة، ودعم نشاطها الانتاجي ماديا وحماية منتجاتها من المنافسة الأجنبية، مما ساهم في زيادة معدل النمو الاقتصادي ورفع المستوى المعيشي للمواطن.
أما في السودان، فبعد ثلاثين عاما من حكم كان جوهره سياسة اقتصادية احتكارية وتمكين لفئة ضيقة، افتقدت البلد وجود قاعدة انتاجية واسعة وفعالة ومتداخلة، أو منخرطة مع/في تنظيمات المجتمع المختلفة، الأحزاب والنقابات ومنظمات أصحاب العمل والمزارعين والرعاة والمهنيين والحرفيين والتجار والجمعيات التعاونية…الخ، مما شكل عائقا أساسيا أمام إشراك هذه القوى في رسم سياسة اقتصادية نابعة من إفرازات التفاعل الاقتصادي والسياسي داخلها، كما في الصين والدول المتقدمة الأخرى. وفي إطار الفترة الانتقالية الراهنة في السودان، فإن القوى التي أفرزتها ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، وخاصة القوى الشبابية، مؤهلة لإنجاز مشروع قومي متكامل لاشراك قوى الانتاج في رسم السياسة الاقتصادية للبلاد، وذلك على أساس محورين، الأول هو إشراك تنظيمات قوى الانتاج في أعمال المؤتمر الاقتصادي القومي المزمع عقده خلال الأسبوع القادم.
سياسة إشراك قوى الإنتاج هذه، تساهم في تقوية المجتمع المدني وفي تعميق الديمقراطية التعددية. وإضافة إلى أن هذه السياسة ترفع من المكانة الاقتصادية والسياسة لقوى الإنتاج
هذه الخطوة تمثل كسرا للتقليد وللفهم السائد بأن رسم السياسة الاقتصادية هو عمل نظري حكر للجهاز البيروقرطي والأكاديميين. فبامتلاكها لقدر كبير من المعرفة في المجلات التي تخصها، وباشراكها في وضع القوانين وخصوصا في المراحل الأولى لإعداد الميزانية وتحديد التعريفة الضرائبية والجمركية، سنضمن تطور المجال المعين في الوقت الصحيح، كما سنزيد من درجة قبول المواطن للقانون والإجراءات البيروقراطية، وبذلك نضمن فعاليتهما في خدمة التطور المنشود. إضافة إلى ذلك، فإن المشاركة الحقيقية لقوى الانتاج فيرسم السياسة الاقتصادية، تؤدي الى تقوية المجتمع المدني وترسيخ الديمقراطية التعددية وإلى خلق مصادر معلوماتية حقيقية للجهاز البيروقرطي وللمجال البحثي الاكاديمي ،من اجل صياغة حلول ورسم آليات واقعية لمعالجة المعضلات الاقتصادية ووضع استراتيجية لتنمية متوازنة ومستدامة ومتكافئة لكل اقاليم السودان.
المحور الثاني هو مشروع مؤسسية قوى الانتاج. فانطلاقا من حقيقة أن قوى الإنتاج هي عماد الدولة الحديثة اقتصاديا وسياسيا، وحقيقة وجود ضعف ونقصان في التنظيم القائم لقوى الانتاج في السودان، نتيجة لغياب المجتمع المدني وسياسة التمكين الاقتصادي والسياسي طيلة ثلاثينية حكم الإنقاذ عقد السابقة، نعتقد بأهمية أن تتبنى الحكومة الانتقالية وتنفذ بآليات فعالة ووفق خطة عملية ومدروسة مشروعا لتحفيز قواعد قوى الانتاج في كل المجالات الانتاجية، في الولايات وعلى المستوى القطري، لتأسيس تنظيمات بقواعد قانونية ثابتة من اجل دفع التعان بينهم وكشريك عمل لمؤسسات الدولة في ما يخص عمل وتطوير وحقوق وواجبات القطاع المعين، بما في ذلك دعم قيام القطاع التعاوني الانتاجي والتمويلي. نشير إلى أن للشباب دورا محوريا ومركزيا في هذا المشروع، علما بأن خلق فرص عمل للشباب، ولو لفترة محدودة، في مجال بناء التنظيمات المعنية فئوية يكسبهم خبرة ادارية وقيادية واجتماعية وتجعلهم مؤهلين مستقبلا لتولي مراكز قيادية في الخدمة المدنية. ولأجل تحقيق المشروع وتجسيده على أرض الواقع، تنشئ الحكومة الانتقالية برنامجا تشغيليا، قوامه الشباب المؤهل في مجال الادارة والعمل الاجتماعي والاحصاء وتقنية المعلومات الإلكترونية. أما تمويل المشروع، فيمكن أن يتم وفق قرار سياسي من الحكومة يسمح باستخدام الأموال والأصول التي نهبها النظام البائد وتم استردادها. كما يمكن أن تخاطب الحكومة الانتقالية المجتمع الدولي المتضامن مع الثورة السودانية، وكذلك صناديق التنمية العالمية والإقليمية، من أجل تمويل المشروع ودعمه.
إن الهدف الرئيسي من إشراك قوى الإنتاج في رسم السياسة الاقتصادية للدولة، هو تفجير كل الطاقات المادية والبشرية المتوفرة للنهوض بالاقتصاد السوداني، من خلال بناء اقتصاد انتاجي ذات قيمة مضافة متطورة للمنتجات الوطنية، ومن خلال سياسة اقتصادية تضع في حسبانها كل الظروف الواقعية في البلد. وسياسة إشراك قوى الإنتاج هذه، تساهم في تقوية المجتمع المدني وفي تعميق الديمقراطية التعددية. وإضافة إلى أن هذه السياسة ترفع من المكانة الاقتصادية والسياسة لقوى الانتاج، فإنها ايضا ترفع من مكانتها الاجتماعية، وتلعب دورا هاما في تحفيز الشباب على ممارسة العمل الانتاجي، والابتعاد عن الاعمال الهامشية وأنشطة المضاربات بمختلف أنواعها.
كاتب سوداني