نعم السلام على رأس أولويات الفترة الإنتقالية. ولكن السلام في أجواء ملبدة بغيوم انهيار اقتصادي تعيش نذره البلاد، سيكون مجرد كلمات وجمل متفائلة لا تسمن ولا تغني ولا تحقق سلاما فعليا، بل ويمكن أن تتبدى شرارة حريق آخر، لا تقوى بلادنا على مواجهته، فلا يُبْقِي وَلاَ يَذَرُ. وعندما تزمجر الطبيعة غاضبة هائجة وتغزو البلاد، يقودها الأزرق الدفّاق، لتستبيح أرضنا وناسها الطيبيين، ولا تصدها سوى ذاكرة عاطلة خربة تجيد فقط إعمال المقارنات بغضبة مياه النيل عام 1946 و 1988، ولا تتذكر أن بلادنا تعاني اليوم من بنية تحتية هشة، ومن خواء اقتصادي وعجز في الشراء وصل بالناس حد المجاعة، فستتضاعف المعاناة وستتوطد النكبة. لنتذكر معا أن البلاد، ولأكثر من شهرين مرشحة للزيادة، بدون وزراء يقودون أهم المجالات المتعلقة بحياة الإنسان السوداني، وزراء المالية والصحة والطاقة والزراعة والثروة الحيوانية والبنية والخارجية، في ظل وضع إنتقالي أفرزته ثورة عظيمة، يسعى للتخلص من القديم الفاسد وإرساء الجديد الصالح. إنها قطعا مفارقة عجيبة وخطيرة. ومع ذلك، فإن النكبة الكبرى التي تعيشها البلاد، في اعتقادي، هي نكبة الاقتصاد المنهار. وبالطبع فإن نكبة الطبيعة ونكبة الاقتصاد ليستا سوى انعكاس لنكبة السياسة في هذا البلد المنكوب.
عندما كان الناس يحثون الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير للشروع في تنظيم مؤتمر اقتصادي يتوافق فيه خبراء البلاد وسياسيوها على برنامج إسعافي لإنقاذ الاقتصاد المنهار والموروث من الإنقاذ، أعتقد لم يكن في تصورهم، عقد مؤتمر بالمواصفات الأكاديمية البحتة والتي يغلب عليها الطابع النظري وليس العملي والعملياتي، بقدر ما كان، ولا يزال، التصور هو توافق هؤلاء الخبراء والسياسيون على خارطة طريق إسعافية تمنع الانهيار الاقتصادي والتي كل المؤشرات ظلت تؤكد أنه حادث لا محالة. وحتى إذا افترضنا أن المؤتمرات الاقتصادية وفق الصيغة الأكاديمية هي ضرورة لا يمكن الإستغناء عنها، وهذه حقيقة، فإن هذا الأمر تم بالفعل وبمشاركة الحكومة الإنتقالية.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني كللت «مجموعة أبحاث السودان» نشاطا تحضيريا ساهم فيه عشرات الخبراء والأكاديميين الاقتصاديين السودانيين، بعقد مؤتمر اقتصادي في الخرطوم تحت شعار «نحو تنمية شاملة ومستدامة في السودان» شارك فيه خبراء سودانيون من مختلف الخلفيات الأكاديمية والمدارس الفكرية، يعملون في السودان وخارجه، ويمثلون أجيالا ومستويات خبرة وتخصصات متنوعة، جمعهم حب الوطن والرغبة الصادقة في إنتشاله من وهدة علله الاقتصادية الراهنة والمزمنة، وشحذتهم الثورة المجيدة بأسلحة الإرادة والتصميم.
من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تقدير حجم الفجوة في الموارد، والذي على أساسه يتحدد العجز في الموازنة ومصادر التمويل الداخلي الخارجي، بالاستناد إلى مصادر إيرادات تنقص حوالي 80 في المئة عن الموارد الحقيقية نتيجة وجودها خارج ولاية وزارة المالية
شاركت الحكومة وقطاع رجال الأعمال في كل جلسات المؤتمر، وخاطبه الأخ رئيس الوزراء مشيرا إلى أن إنعقاده بالخرطوم، يتم بفضل نجاح ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، وأنه يجيء والبلاد تمر بمرحلة انتقالية دقيقة تتطلب شفافية في بحث قضايا الانتقال ووضع الأسس لسودان المستقبل، من خلال بحث قضايا الاقتصاد الكلي والحكم الرشيد وإدارة الموارد الطبيعية والحوكمة والمؤسسات والبنيات التحتية المستدامة ودور القطاع الخاص في التنمية بجانب قضايا الجندرة وسياسات التنمية الاجتماعية، ومعربا عن أمله في أن يخرج المؤتمر بتوصيات تعمل على وضع لبنات أساسية لبناء سودان جديد. وبالفعل، خرج المؤتمر بعدد من التوصيات الهامة، والتي شاركت الحكومة في صياغتها وبلورتها، إما عبر الوزراء المختصين، أو المسؤولين الحكوميين من مختلف والوزارات والإدارات والقطاعات. وشخصيا، عندما أرى التحضير الجاري الآن لعقد المؤتمر الاقتصادي الذي تأجل انعقاده أكثر من مرة، وما يصحبه من دعوات لكتابة أوراق ومساهمات…الخ، أحتار جدا وأتساءل: لماذا نحن دائما ندمن العودة إلى المربع الأول بعد أن نكون تخطيناه وتقدمنا منه بعدة مربعات؟.
بإختصار، ودون أي إدعاء بأن لي معرفة بأساسيات علم الاقتصاد، وأقبل عن طيب خاطر أن أُلقم حجرا إذا كان ما سأقوله سيتناقض والفهم العلمي لإدارة الاقتصاد، أرى أننا لا نحتاج لعقد مؤتمر إقتصادي وفق النهج الأكاديمي البحت، وسيكون مسلكا عجيبا أن نكرر ما جاء به مؤتمر مجموعة أبحاث السودان أعلاه، ولكن نعم وقطعا نحتاج إلى مؤتمر يبحث، وبمشاركة واسعة ومتوازنة، في الآليات العملياتية لإنقاذ البلاد. وحتى لا ألقي القول على عواهنه، تواصلت بالأمس مع صديق، أستاذ إقتصاد وخبير في السياسات المالية والاقتصادية منذ منتصف السبعينيات، ونقلت إليه وجهة نظري، فوافقني الرأي وأعطاني مثالا يعضد من طرحي.
قال لي هنالك إجراءات اقتصادية تنفيذها لا يحتاج إلى توصيات من مؤتمرات اقتصادية أكاديمية. مثلا، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تقدير حجم الفجوة في الموارد، والذي على أساسه يتحدد العجز في الموازنة ومصادر التمويل الداخلي الخارجي، بالإستناد إلى مصادر إيرادات تنقص حوالي 80 في المئة عن الموارد الحقيقية نتيجة وجودها خارج ولاية وزارة المالية، حسب ما جاء في خطاب الأخ رئيس الوزراء بمناسبة الذكرى الأولى لتوليه الوزارة. ولتقدير حجم الفجوة، نحتاج إلى استخدام التمرين الاقتصادي القائم على نظام «المحاكاة» بافتراضات خاصة بإدخال الموارد خارج الموازنة بنسب متدرجة، حسب ما يمكن السيطرة عليه من المال الموجود خارج ولاية وزارة المالية خلال الفترة الإنتقالية.
هذا التمرين يمكنه أن يحدد بطريقة علمية مدى «المبالغة في القيمة» نتيجة التقديرات المبنية على نقص المعلومات التي تجعل الموازنة أسيرة للدعم الخارجي المبالغ فيه، والمؤدي الي تراكم القروض، وربما الارتهان السياسي، للقوى الخارجية. هذا التمرين الاقتصادي، المحاكاة، لا يكلف وقتا أو جهدا أو مالا، ويستخدمه خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ويمكن أن يقوم به فريق عمل مشترك، يضم المستشارين الاقتصاديين لرئيس الوزراء واللجنة الاقتصادية للحرية والتغيير والعاملين بوزارة المالية الذين هم أصلا على دراية وخبرة بهذا التمرين. أما الإستمرار بمنهج يقوم على نفس الافتراضات التي تتجاهل ما يجري في الواقع، يعني السير في ذات نهج نظام الإنقاذ وتوريط الحكومة الانتقالية ليبتلعها، هي والبلد، الانهيار الاقتصادي.
كاتب سوداني
بل نكبة التطبيع بنكهة الاستبداد