إن من أهم مقومات تحقيق العدل الذي تنشده ثورة ديسمبر/كانون الأول، وهتفت به ضمن شعارها الخالد، حرية…سلام وعدالة، هي إصلاح النظام القضائي وفق معايير محددة، تتضمن دعم استقلال ونزاهة وحيدة القضاء، وتدعم أداء وكفاءة الجهاز القضائي، بما في ذلك مراعاة أن يكون للقضاة الكفـاءة التعليميـة والتدريبية، وتمتعهم بصفات وسلوك في الحياة تؤكد صحو الضمير والموضوعية والفهم الإنسانى، وتدعيم وصول المتقاضين إلى جهاز القضاء.
ومطلب إعادة هيكلة النظام العدلي وإصلاحه، لم يكن مقصورا على هتافات الثوار وحدهم في الشوارع، بل صدح به قضاة السودان وهم ينضمون إلى المواكب الهادرة، ويلتحمون بشباب الثورة في ساحة الإعتصام أمام قيادة القوات المسلحة السودانية، مرددين الهتافات والشعارات المنادية باستقلال القضاء وتطهير السلطة القضائية من بؤر الفساد والإفساد التي زرعها النظام السابق في جسمها. وإنضمام القضاء إلى مواكب الثوار، كان تطورا نوعيا لافتا وداعما للحراك الشعبي، وأعاد للأذهان ذات المشاهد التاريخية في ثورتي الشعب السوداني في أكتوبر/تشرين الأول، 1964، وأبريل/نيسان، 1985، عندما لعب قضاة السودان دوراً بارزاً ومشهوداً في إنتصار الشعب على النظامين الديكتاتوريين. وإصلاح القضاء، بهدف تحقيق وضمان إستقلاله وحيدته، ليس مجرد شعار أجوف، وإنما ينبع من حقيقة ما أصاب نظامنا القضائي من تخريب وإفساد. فالقضاء السوداني، مثله مثل بقية أقسام الخدمة المدنية والعسكرية في البلاد، تعرّض إلى تدمير ممنهج، بمجرد وصول نظام الإنقاذ البائد إلى الحكم عبر الإنقلاب العسكري في يونيو/حزيران 1989، حيث تم فصل المئات من القضاة، المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، وتسكين الموالين للإنقاذ من القضاة الإسلاميين، وتم ذبح إستقلال القضاء لدرجة أن الكثير من الأحكام، وحالات سحب القضايا من أمام التقاضي، تُقرر في القصر الجمهوري وليس في ردهات المحاكم.
سقت هذه المقدمة لربطها بمكتوب هام جدا، ويكتسب أهميته من ثلاثة أسباب.
السبب الأول أن الكاتب هو مولانا عبد القادر محمد أحمد، وهو قاض ومحام مشهود له بالكفاءة العالية والنزاهة والاستقامة والصرامة في تحقيق العدالة. والرجل غير منتم سياسيا، لكنه منتم حد التعصب الحميد لإصلاح المنظومة العدلية وإستعادة إستقلال القضاء، وتنفيذ أهداف الثورة المجيدة. وأنا أقول هذا الكلام، لا لعلاقة شخصية بالرجل، ولكن عن تجارب معه فيما يختص بإصلاح النظام العدلي وإصلاح القوانين، خاصة خلال الفترة عقب إنتفاضة أبريل/نيسان 1985.
الديمقراطية واستقلال القضاء مرتبطان ارتباطا وثيقا ولا يمكننا العبور بالفترة الانتقالية إلى بر الأسس الصلبة لاستدامة النظام الديمقراطي التعددي، إلا بتحقيق إصلاح مؤسسة القضاء بما يضمن نزاهتها
السبب الثاني، أن المكتوب، طرح قضيتين في غاية الأهمية، الأولى أشار فيها إلى ما أسماه العجز المفاهيمي عند السلطة القضائية في إجتثاث ما غرسته الإنقاذ من مظاهر عدة تنتهك أمانة واستقلال القضاء انتهاكا صارخا، أي بسبب مفاهيم خاطئة غرستها الإنقاذ في النفوس، عبر ممارساتها غير السوية في تعاملها مع أجهزة العدالة، عندما جعلت شرط تولي القضاء الانتماء لحزبها أو الذهاب لمعسكرات الجهاد السياسي أو أداء قسم الولاء،…إلى غير ذلك من الظواهر المدمرة التي عددها المكتوب، فتعايش السادة في إدارة القضاء على هذه الأوضاع غير السوية، طوال سنوات الإنقاذ وألفوها، فأصبحت أمرا عاديا في نظرهم، ثم ارتقت لدرجة المفاهيم. والقضية الثانية عبارة عن رسالة إلى السيدة رئيسة القضاء، يصفها بأنها رمز من رموز الثورة، وأنها قاضية شجاعة وأمينة وقادرة على اتخاذ القرار، ولكنها في حاجة ماسة لطاقم إداري متمرس ومتجرد، ولقضاة المحكمة العليا الذين يحملون هم القضاء واستقلاله، لأولوية الأخذ بآرائهم، ويذكرها بأن هناك عهدا وميثاقا بينها وبين قوى الثورة عليها الالتزام به، مضمونه أن تنفذ المطلوبات المتعلقة بالقضاء، الواردة في الوثيقة الدستورية، والمتمثلة في إصلاح القضاء بما يحقق استقلاله وحيدته وكفاءته ونزاهته، حتى يمكنه القيام بدوره في التحول الديمقراطي وتحقيق الحرية والسلام والعدالة.
أما السبب الثالث الذي ألبس مكتوب مولانا عبد القادر أهمية، أنه عكس خلافات وتباينا في الرؤى وسط القضاة حول كيفية إصلاح القضاء وإستعادة استقلاليته وحيدته. وشخصيا أعتقد أن الخلاف وتباين الرؤى غير مزعج، لكن المزعج هو الفشل في إدارتهما، لأن الناتج لن يكون انتصارا لهذه الفكرة وهزيمة للأخرى، وإنما طعنة نجلاء لمشروع إصلاح المنظومة القضائية برمته. إن القضايا التي أثارها مولانا عبد القادر لا يمكن تجاهلها، ولا ينبغي، خاصة أنها قريبة من، إن لم تكن متطابقة مع، ما أثاره قضاة آخرون محل تبجيل وإحترام، وفي مقدمتهم مولانا سيف الدولة حمدنا الله عبد القادر، المدافع الشرس عن استقلال القضاء وأهداف الثورة. وهي قضايا من صميم المطلوب بحثه تحت بند إصلاح النظام القضائي، وتستوجب إثارة عصف ذهني حولها من مجموع قضاة وقانونيي السودان، وفق آلية يتم التوافق عليها، وقتلها بحثا قبل أن تقدم للأجهزة المعنية لمناقشتها وصياغتها في الإطار القانوني. وفي غياب المجلس التشريعي، أعتقد من الضروري إعلاء راية الشفافية وعدم إقصاء الرأي الآخر وتوسيع المشاركة. فالأفكار والرؤى حول إصلاح القضاء وضمان استقلاله، لا تقتصر على أهل مكة وحدهم، بل كل القطاعات التي يهمها تحقيق شعار العدالة كما هتفت به الثورة، من واجبهم المساهمة، مادام في إمكانهم تفهم المعايير الضرورية والمطلوبة لإصلاح القضاء. ومن ناحية أخرى، فإن أي محاولة لفرض الإصلاحات القضائية بمنطق انتصار هذه المجموعة على الأخرى، ستثير بلبلة كبرى سرعان ما تتحول إلى عدم ثقة وشكوك حول الأهداف الحقيقية وراء ما تم إقراره. وعنصر الثقة، في إعتقادي، هو معيار إنسان الشارع العادي للحكم على استقلال ونزاهة القضاء.
نحن لا يمكننا تصور وجود تحول ديمقراطـي دون اسـتقلال القـضاء، فالديمقراطية واستقلال القضاء مرتبطان ارتباطا وثيقا لا انفصام لعراه. وقطعا، لا يمكننا العبور بالفترة الانتقالية إلى بر الأسس الصلبة لاستدامة النظام الديمقراطي التعددي، إلا بتحقيق إصلاح مؤسسة القضاء بما يضمن نزاهتها وحيدتها، بالإضافة إلى جملة الإصلاحات في المؤسسات الأخرى التي خرّبها وأفسدها النظام البائد.
كاتب سوداني