سارعت السعودية والإمارات إلى إعلان تأييدهما خطوات المجلس العسكري الانتقالي في السودان، بالتوازي مع حزمة مساعدات تشمل أدوية ومشتقات بترولية وقمحا، أمر الملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، تقديمها إلى السودان لمساعدته في أزمته الاقتصادية.
ما هو ظاهر من المشهد يبدو عاديا، لكن التجارب المماثلة إن من جهة “المساعدات” أو التأييد، تكشف المستور منه، لا سيما وأن أي سؤال عن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالسودان، يجب أن يتبعه سؤال آخر، عن مصير الاستثمارات السعودية والإماراتية بعشرات مليارات الدولار، والتي روّج لها الإعلام الرسمي للبلدين خلال السنوات القليلة المنصرمة. فإذا كان البلد الافريقي يعاني من مأزقٍ اقتصادي حاد تجاوز تعبير الأزمة، فأين هي تلك المليارات التي كانت تهدف وفق ما قيل إلى مساعدة السودان على حل مأزقه الاقتصادي؟ إذ أن الأمر لم يعد متعلقا بخذلان السعودية والإمارات لحليفهما عمر البشير، بل بخذلانهما أيضا للسودان، شعبا ودولة، لا بل أكثر من ذلك، بالتآمر عليه والتورط في تعقيد أزمته.
استثمارات بنتائج عكسية
خلال فترة ما قبل الاحتجاجات الأخيرة بأشهر، شنت صحف سودانية هجوما حادا على السعودية، بسبب عدم تقديم دعم للسودان لمواجهة الضائقة الاقتصادية، على رغم الوعود الكثيرة، واستمرار رفض البنوك السعودية السماح للمغتربين السودانيين بتحويل مدخراتهم المالية عبر المصارف، بعد قرار واشنطن الجزئي برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، وقبول مصارف أمريكية وأوروبية بذلك. وقد رافق ذلك طرد عشرات آلاف السودانيين من السعودية جرّاء قرار الأخيرة الحد من اليد العاملة الأجنبية، حسب اعتراف سفير السودان لدى المملكة، عبد الباسط السنوسي، حيث عاملت الرياض الوافدين السودانيين بطريقة لا تتناسب أقله مع حجم الخدمات التي قدمتها الحكومة السودانية للأخيرة، لا سيما في حرب اليمن.
كان من المنتظرِ أن يلقى السودان دعما سخيا من قبل السعودية والإمارات لقاء قطع انخراط الخرطوم في السياسات العامة للحلف السعودي-الإماراتي في المنطقة، إلا أن السنوات الأربع الماضية وتحديدا خلال فترة “الحلف” سجل الاقتصاد السوداني تدهورا كبيرا في مؤشراته فاق السنوات السابقة، رافقه فقدان العملة الوطنية أضعاف قيمتها، وارتفاعٍ في أسعار السلع والخدمات، بالتوازي مع التضخم، فيما بقيت تأثيرات الدعم السعودي للاقتصاد دون مفاعيل عملية لها على أرض الواقع، على الرغم من توزع الاستثمارات السعودية المزعومة في مجالات حيوية مختلفة، تشكّل أهمية قصوى للمواطن السوداني، وتدخل في سلّم أولويات حياته اليومية.
على سبيل المثال فإنه في عام 2016 دشن البشير مشروعا للاكتفاء الذاتي من القمح، الذي تستورد منه البلاد سنويا ما لا يقل عن 400 ألف طن، وذلك عبر مشروع في الولاية الشمالية، باستثمارات سعودية تفوق 250 مليون دولار، على أن تكون المساحات المزروعة بالقمح والعلف نحو 140 ألف فدان، وسط توقعات أن تنتج 280 ألف طن قمح، وهي تعادل 80 في المئة من احتياجات البلاد، فيبقى أن يستورد السودان 20 في المئة فقط. وقد نالت تلك الاستثمارات بالإضافة إلى العديد من الاتفاقيات الأخرى، ترويجا إعلاميا ضخما، كان ينبئ بأن السودان قادم على سنين من الازدهار الاقتصادي.
لكن، وعلى الرغم من الاستثمارات السعودية الضخمة التي أعلن عنها في مجال القمح والدقيق، فقد عانى السودان مع بداية العام الماضي وما زال من أزمة حادة في مشتقات الإنتاج القمحي، أدت إلى مضاعفة سعر الخبز، أهم سلعة غذائية يومية للمواطن السوداني، وذلك بعد رفع الحكومة الدعم عن الدقيق (القمح المطحون) بسبب عدم وجود نقد أجنبي لتغطية نفقات استيراده. ما يشي أن السودان لا يزال مضطرا لاستيراد الكميات الأكبر من الدقيق من الخارج. فأين ذهبت الاستثمارات السعودية، التي كانت تهدف إلى إنتاج القمح داخل البلاد، والاستعاضة بالكمية الأكبر من الإنتاج المحلي عن الاستيراد من الخارج؟ بالأخص وأن تلك الاستثمارات في مجال زراعة القمح، رافقها إعلان استثمارات في مجال بناء المطاحن، أي أنه وحسب ما قيل في حينها، سيكون السودان قادرا على إنتاج جميع مشتقات القمح داخل البلاد، وسيكون لديه اكتفاء ذاتيا، استنادا إلى الاستثمارات السعودية المعلنة في المجال المذكور، وهذا ما لم يحصل.
أزمة الوقود
إلى جانب ذلك، وفي تشرين الأول/نوفمبر العام الماضي، قال السفير السعودي لدى الخرطوم، علي بن حسن جعفر، إن “حجم الاستثمارات الفعلية لبلاده في السودان فاقت الـ12 مليار دولار”. لم يكتفِ السفير السعودي بهذا القدر من التضليل، بل تابع ليقول “إن المخطط له يتجاوز هذا الرقم بكثير”. في الفترة ذاتها التي أدلى بها بن حسن جعفر بهذا التصريح كان عدد كبير من السودانيين مجبرون على الاصطفاف لساعات طويلة أمام محطات الوقود بسبب أزمة المشتقات النفطية التي اجتاحت البلاد، والتي تسببت في مرحلة سابقة بالإطاحة بوزير النفط عبد الرحمن عثمان، وهو الوزير ذاته الذي أعلن في نيسان/أبريل العام الماضي، عن اتفاقية مشتركة بين السودان والسعودية لتزويد بلاده بالنفط لمدة خمس سنوات، لتقع البلاد في أزمة نفطية بعد خمسة أشهر، في حين أن أي باخرة نفط تنطلق من السعودية، تستغرق بضعة أيام لتصل إلى السودان. لكن اللافت أكثر، أن أزمة الوقود في السودان تفاقمت بسبب شح النقد الأجنبي كما هو حال أزمة الخبز، ما عطل عملية الصيانة الدورية لمصفاة الخرطوم، فهل كانت السعودية عاجزة عن تحويل بضعة ملايين من الاثني عشر مليار دولار لصيانة المصفاة؟
الانطلاق من تلك العينة مهم، لتحديد المسار الذي سارت عليه العلاقة السعودية-السودانية، ولتحديد الأرضية التي انطلقت منها الأزمة الاقتصادية والسياسية السودانية، وعلاقة الرياض بها. فأولا، انعكست أزمة الوقود على كافة المجالات المعيشية في السودان. وثانيا، فإن أي علاقة بين السعودية وبلدٍ آخر تمتنع خلالها المملكة الغنية بالنفط عن المساعدة في تزويد البلد الذي تدّعي الاستثمار داخله بالمشتقات النفطية، فإنها حتما ستكون في مجالات أخرى غائبة.
تآمر قديم يتجدد
يعيدنا عدم تقديم السعودية المساعدة للسودان في أزمة الوقود الأخيرة وما نتج عنها، إلى التورط السعودي بالأسباب التي أدت عبر السنوات الأخيرة، إلى تفاقم تلك الأزمة، أي قضية انفصال جنوب السودان. فإنتاج السودان النفطي تراجع بعد انفصال الجنوب عنه عام 2011 من 450 ألف برميل إلى ما دون 100 ألف برميل يوميا، ما جعل الخرطوم مضطرة إلى استيراد أكثر من 70 في المئة من المواد البترولية لتلبية الاستهلاك المحلي. ويظهر التآمر السعودي على السودان شعبا وحكومة عبر المشاركة المباشرة في دعم الانفصال، لا سيما وأن الرياض كانت الداعم الرئيسي لمتمردي الجنوب بالسلاح والذخيرة، وفق ما كشفته “دار الوثائق القومية السودانية” وأبرزته الوكالة السودانية الرسمية “سونا” في تسعينيات القرن الماضي، إذ أن سفن السلاح كانت تنطلق من ميناء “ينبع” السعودي باتجاه المتمردين جنوب السودان، في حينها، حيث اعترضت بعضها الحكومة الكينية، وأبلغت عنها الحكومة السودانية. يضاف إلى ذلك، تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الصادر في آب/أغسطس من عام 1998 بعنوان “عمليات نقل السلاح لجميع الأطراف في السودان” والذي كشف أن مسألة الدعم السعودي للتمرد جنوب السودان كانت أكبر من شحنة سلاح، فقد وثقت المنظمة عبر زيارة قام بها باحثوها إلى معاقل “الحركة الشعبية” في جنوب السودان وجود صناديق سلاح وذخيرة سعودية، ودونوا بيانات شحنة ألغام أرضية مضادة للدروع بلجيكية الصنع. ولم تكن هذه أول مرة تظهر فيها أسلحة سعودية في جنوب السودان، فقد تم اكتشاف شحنة أسلحة تبلغ 120 مليون دولار، أرسلتها شركة أمريكية يمتلكها أمير سعودي وكانت تحتوي على “مدافع هاورتز ومدافع هاون وذخائر دبابات” وفق ما أوردته المنظمة أيضا.
يظهر التورط السعودي واضحا في الأزمة الاقتصادية والمعيشية، التي يعاني منها السودان، وفيما يواجه الشعب السوداني تداعيات الأزمة، فإنه يواجه أيضا الجهود الإماراتية-السعودية المتواجدة خلف الستارة، التي لا تزال تحاول الهيمنة على قرار السودان، وإخضاعه أكثر من ذي قبل، عبر حكمٍ عسكري تابعٍ لها، مع إبقاء اقتصاد الخرطوم المتداعي، رهينة وعود أثبتت زيفها. ويأتي ذكر مزاعم الاستثمارات السعودية الضخمة، في مجالات حيوية وأساسية، كأمثلة واقعية وملموسة، لتلقي الضوء على حقيقة المساعدات التي قدمتها الرياض إلى الخرطوم، ولتكون شاهدا على التورط السعودي المباشر، في عرقلة أي محاولةٍ سودانية يقودها الشعب، للنمو باقتصاد البلاد، وتحرير موارده من الابتزازين السياسي والاقتصادي.