السوريون على سرير بروكروستوس

تعود السوريون على أن تقدم لهم التعاريف جاهزة ومقولبة وفقاً للفهم الأيديولوجي ولمقتضيات المصلحة لدى الديكتاتورية الحاكمة. فالوحدة والحرية والاشتراكية، مثلاً، هي فقط كما يفهمها ويُعرفها البعث، وكما يروج لها الاستبداد ضمن الصيغ التي تساعده في تمكين قبضته على الدولة والمجتمع. وليست الديمقراطية إلا بذلك الاستفتاء الذي ينجح به المرشح الوحيد بنسبة التسعة والتسعين بالمئة، وبالجبهة الوطنية التقدمية وبالمسخ الحزبي الذي يشكلها. هذه هي ‘الديمقراطية في أبهى صورها’ كما يقول أحد وزراء النظام.
ليست هذه الصيغة إلا طريقة قاطع الطريق ‘بروكروستوس’ الذي تروي الميثولوجيا أنه كان يرى أنه الأفضل والأكثر كمالاً، ومن هذا المنطلق كان لديه سرير يضع ضحيته عليه، فإن كانت الضحية أطول من السرير قص من جسدها حتى يتناسب مع السرير، وإن كانت الضحية أقصر مدها حتى تتناسب مع طول السرير الذي يراه مثالياً.
فلسفة بروكروستوس هذه تصبغ الخطاب والسلوك الذي مُورس، ويُمارس على السوري من النظام منذ توليه، ومن المعارضة والنظام معاً منذ قيام الثورة. وهذه العقلية هي التي تحكم الذهن العمومي لعناصر الأمن والاستخبارات وغرف التعذيب بأنواعه. هي عقلية ليست بالغريبة على أنظمة الاستبداد والأنظمة الشمولية، التي ترى أن أيديولوجيتها هي الصح المطلق وما دونها خيانة يستحق حاملها الموت، أو قبل بتفصيل فكره على مقاس الأيديولوجيا ‘المثالية’. فيجب ألا يكون الآخر، عملاً بهذه القناعة الراسخة ووفق مقتضيات تطبيقها العملية، إلا ميتاً أو كائناً مشوهاً فكرياً.
ويبدو أن هذا ما كان تماماً للنظام السوري، فلقد قتل الكثير من المعارضين الذين لم يستطع أن يشوه بنيتهم ليناسبوا مقاس سريره. ولم يتبق اليوم إلا هؤلاء المعارضين المشوهين الذين فصَّلَهم على مقاس سريرهن فلم يُنتِجوا سوى معارضة بمنطق النظام، وهذا حال كل المعارضة السورية بشخوصها المشوهة ومؤسساتها الهزيلة وبمفاهيمها وافكارها، إلا من رحم ربي. هي المعارضة بمنطق النظام وبأفكار النظام أو قل أحياناً بلافكر النظام. وتلك الاجتماعات التي تقام في اسطنبول والقاهرة و… كثيراً ما تذكرني بالاجتماعات الحزبية البعثية الخالية المضمون والمبهرجة الشكل التي تبدو مشغولة بالهم العام والعمل السياسي ولا تفعل شيئاً سوى الضجيج المزعج والشعارات التي لا تستند لأي فكر أو استراتيجية.
نجاح النظام الكبير يكمن في هذا التشويه الفكري الذي سببه لمن بقي حياً من معارضيه، فليس الإسلامي المعارض إسلاميا حقيقياً، بل هو إسلامي ذو منطلق استبدادي في دوافعه الباطنة. ولا العلماني المعارض علمانيا حقيقيا بقدر ما هو علماني مشوه. وكثيرٌ ممن يدّعون أنهم ديمقراطيون وأصحاب المشروع الديمقراطي كالذين أسسوا ‘اتحاد الديمقراطيين السوريين’ في أواخر الشهر الماضي في اسطنبول خلال يومين ونصف اليوم من العمل، كان أكثر من ثلاثة ارباعها في الانتخابات ومناقشة التخوين، فيما نُوقش الميثاق السياسي بساعتين وبشكل شكلي. ولم تكن التجمعات المعارضة الأخرى ابتداء من هيئة التنسيق والمجلس الوطني وصولاً لإئتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية وما بينها من تجمعات بأفضل حالاً أو أرجح فكراً.
وللتوضيح: ليس هذا النقد بهدف التشكيك في وطنية أي من شخصيات المعارضة أو التقليل من أهمية المحاولات التي تنشد الحرية من الاستبداد والسعي لإقامة سورية ديمقراطية، إنما ذلك بهدف لفت الانتباه إلى ضرورة الانتقال من صورة هذا العمل السياسي، الذي اثبت فشله الشديد مراراً، خلال سنتين ونصف السنة مرت عجافاً حمراء على سورية والسوريين، إلى العمل السياسي الفكري المنظم المستند إلى العقل المفكر والمنطق السليم غير المؤدلج، الذي يفهم المصلحة العليا لسورية بشكلها السليم، والذي يتمتع بالمرونة وبالإيمان بطابع الاشياء المتغير لا الفكر الراسخ الصلب الذي لا يتغير وفقاً لما يتطلب ما حوله. هو الانتقال من العقل الاستبدادي الشمولي في العمل السياسي إلى العقل الديمقراطي الحقيقي.
ولا أجد نفسي مجحفاً إذا أقول ان النظام الاستبدادي الحاكم لم يكن ديمقراطياً لا شكلاً ولا مضموناً، وان هذه الوجوه المعارضة هي الصورة المشوهة التي أنتج النظام فكرها والتي تتصدر ‘الفكر الديمقراطي السوري’ اليوم، وهي بالعمق معارضة ديمقراطية بالشكل دون المضمون. وإنها لم تستطع للآن ممارسة السياسة إلا بفكر النظام الاستبدادي ومراوغاته واحتياله على قواعده الشعبية. لم تكلف نفسها عناء التفكير والتحليل السياسي السليم الصحي ولجأت، كما النظام، للخداع والمراوغة ظناً منها أن هذا هو فن السياسة، فيما هي لا تمارس سوى ما ورثت من فهم سياسي يقوم على التحالفات المؤقتة التي ليس لمصلحة الوطن فيها أي مكان.
يبدو أن سورية اليوم بحاجة للشباب، ذلك الشباب الذي أثبت انه شباب مبدع في الإغاثة والتنسيق والإعلام والتنظيم للتظاهرات السلمية، بحاجة لهذا الشباب في الميدان السياسي فهو الوحيد، في المشهد السوري الراهن، الذي لم يشوه على سرير بروكروستوس، ومازال طبيعياً وطنياً يستطيع ان يفهم الحرية والديمقراطية والمدنية والدين والعلمانية.. بعمقها العلمي السليم غير المؤدلج الذي لا يخضع لاعتبارات التنافس الشخصي ولا لاعتبارات الاجندات الظلامية التي تدعي دعمها للحرية.
هو الشباب الذي حرك الثورة والذي شق طريقه للحرية من دون ‘النخب السياسية المعارضة’، وباعتراف هذه النخب منذ لحظات الثورة الاولى. هو الشباب الذي لم تدرك مؤسسات المعارضة السورية كلها أهميته وهمشت فكره بالممارسة الفعلية، وبدلاً من أن تُقدمه وتتعلم منه أخذت بالتعالي عليه وركبت ثورته وإنجازاته. وربما يكمن الحل في انتزاع الشباب لزمام العمل والتنظيم السياسي، من خلال مؤسسة سليمة غير مؤدلجة تحاكم بالعقل والمنطق، تضع أهداف الوطن العليا هدفاً لها، والأهم أنها قادرة على تجاوز الانقسام الداخلي بكافة أنواعه بقدرة الشباب، المثبتة خلال الثورة، على تكوين خطاب وطني جامع ومؤسس لسورية حرة ديمقراطية تحترم الإنسان الفرد لمجرد إنسانيته وتعمل على تمكينه ورفاهه.
*كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية