كان ذلك في شهر آذار/مارس 2011، قبيل اندلاع الثورة بفترة قصيرة، في حديث مع ناشطة سورية معروفة عن خلاف نشب بينها وبين ناشطة أخرى معروفة أيضاً على تنظيم نشاط احتجاجي علني في دمشق، قالت لي الأولى إن الخلاف سرعان ما تحوّل إلى مهاترة على صفحات فيسبوك، فأراحت رأسها بأن عملت لها “بلوك”!
كنت جديداً حينها على فيسبوك ولا أعرف ما هو البلوك، فسألتها: “هل تقصدين الحذف؟ فأجابت بالنفي وشرحت لي ما يؤدي إليه البلوك من حجب تام لكل أنشطة الشخص المتعرض له عن الشخص الذي قام بـ”تبليكه”! أدهشتني هذه العملية ولم أستوعبها تماماً. “هل إذا قمت ببحث عن صفحة “المبولك” لن تجديها؟ فقالت: “بل أكثر من ذلك، حتى تعليقاته على صفحات أخرى لن تظهر لك!” البلوك باختصار هو إزالة الشخص المستهدف تماماً من العالم الأزرق الذي يظهر أمام “ضارب البلوك” وطبعاً بالاتجاهين، فالشخص المبولك لن يراك بدوره أبداً على الفيسبوك!
يا له من اختراع رهيب! أنت قادر، بنقرة واحدة على زر الماوس الأيسر، أن تلغي شخصاً من عالمك! أي تقتله معنوياً بالمعنى الحرفي! وإذا قام شخص بتبليكك، فلن تراه أيضاً بعد ذلك. قد يكون صديقاً لك على فيسبوك، أو ربما صديقاً لك في العالم الحقيقي أيضاً، ولسبب ربما لا تعرفه قام بحظرك من عالمه. تتذكره، لمناسبة ما، فتنتبه إلى أنك لم تره منذ فترة طويلة على فيسبوك، فتبحث عن صفحته ولا تجدها! تستنتج أنه من المرجح أنه قام بحظرك بواسطة “البلوك” الشهير إياه، مثل الزوجة سيئة الحظ التي تصلها ورقة الطلاق من زوجها، بلا مقدمات وبواسطة البريد، بعد زمن من ابتعاده عنها. لحسن الحظ ليس للبلوك تبعات قانونية غير مريحة كما في الطلاق غيابياً.
قد تكون لهذا الإجراء بعض الفوائد ويستخدم للضرورات القاهرة، كالتعرض لتهديدات أو إزعاجات أو غيرها، ولكن شيوع استخدامها لأسباب غير مبررة يدفع المرء إلى التفكير حول معنى هذا الشيوع وما قد يترتب عليه من تدهور في العلاقات بين الناس، وبخاصة في واقع سياسي ينطوي على كثير من أسباب الشقاق والتنافر كحال السوريين في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة.
من الصعب رصد كل عمليات البلوك التي قام بها سوريون بحق سوريين خلال هذه السنوات، كنوع من سبر مظاهر التنافر بينهم، لكن الانطباعات الشخصية كافية لأخذ فكرة عنها قد لا تكون بعيدة كثيراً عن الواقع. وفي حدود انطباعاتي عرفت عشرات من البلوكات بين سوريين، أكثرها لأسباب سياسية – أيديولوجية، وقسم منها لانحدار لغة التخاطب في النقاشات الحامية التي تخاض على صفحات فيسبوك. هذا ناهيكم من آلاف حالات الحذف من قائمة الأصدقاء أو حذف تعليق معين على صفحة شخص.
ثمة هوة عميقة حدثت فعلاً بين الموالين للنظام الأسدي والمعارضين له، في الحياة الواقعية قبل العالم الافتراضي، فمن النادر وجود صداقات حقيقية أو افتراضية بين أفراد من الجهتين
لا ينبغي الاستخفاف بهذه الظواهر بدعوى أنها تحدث في عالم افتراضي، فوراء الصفحات الافتراضية هذه أشخاص حقيقيون ينتمون لحيثيات اجتماعية معينة ويعبرون عن حساسيات وميول أكثر عمومية من أشخاصهم.
الواقع أن الحظر أو البلوك قد يبدو حلاً لمشكلة أكثر من كونه مشكلة، إذا تعلق الأمر بسجالات حادة ومهاترات مشينة تترك آثاراً لا يمكن ترميمها بسهولة. فـ”أريح للرأس” إغلاق الباب إذا كان من شان فتحه دخول عاصفة تدمر كل محتويات البيت. غير أن هذا “الحل” هو في الحقيقة خيار آخر قد لا يقل سوءاً عن المهاترات، إذا نظرنا إلى الأمر من منظور اجتماعي لا فردي. ذلك أن تكاثر “البلوكات” بين السوريين سيؤدي بالنتيجة إلى ارتفاع جدران كثيرة بينهم بحيث لا يعود لكلمة “سوريين” من معنى. بل أفراد أو جماعات شاء لهم القدر التجاور في المكان أو في الهوية السورية، وحلوا المشكلة بإقامة جدران مصمتة فيما بينهم.
حالة الانعزال المتبادل هذه تمنع السوريين ليس فقط من إجراء أي حوار فيما بينهم، بل كذلك في الانقطاع التام لأخبارهم بعضهم عن بعض. ويتحول “الآخر المحظور” مع الزمن إلى غريب لا نعرف عنه شيئاً، فنزداد كراهية له وجهلاً به وخوفاً منه، خاصة إذا سمعنا جانباً من أعماله أو كلامه عبر وسطاء لا يأبهون لدقة النقل، بل لهم غاياتهم من النقل المشوه. بكلمات أخرى يؤدي التوسع في استخدام البلوك إلى استحالة اجتماع السوريين، أعني استحالة تكوّنهم في مجتمع. فالمجتمع هو ميدان تفاعل وتبادل وإلفة، أي كل ما هو عكس التبليك.
ثمة هوة عميقة حدثت فعلاً بين الموالين للنظام الأسدي والمعارضين له، في الحياة الواقعية قبل العالم الافتراضي، فمن النادر وجود صداقات حقيقية أو افتراضية بين أفراد من الجهتين، وإن كان هنا وهناك نشطاء يتابعون أخبار الضفة الأخرى لأغراض تتعلق بالصراع بينهما، بحثاً عن أسباب إضافية للعداء، لا سعياً لفهم الآخر أو العثور على نقاط تلاقٍ محتملة يمكن البناء عليها لإنقاذ المستقبل بعدما دمر الماضي كل الجسور.
كذا ستجد أن الصراعات على خط الانقسام العربي – الكردي قد خلقت شقاقاً على صفحات فيسبوك وإن لم يتحول إلى حالة شاملة، فما زال التداخل بين المكونين من خلال أفراد وتيارات من الطرفين، بعضه يشكل جسوراً للحوار، وبعضه الآخر يفاقم الخلافات. ومثله الانقسام الإسلامي – العلماني الذي يشهد العالم الافتراضي جولات متجددة من السجالات الحادة بين طرفيه، لكنه لم يؤد إلى بلوك شامل بينهما. الانقسامان المذكوران هما على الضفة المعارضة للنظام، وهذا هو سبب عدم رفع جدران عالية تعزل طرفي كل منهما عن الطرفين المقابلين. التفاعلات هنا، مهما غلبت عليها العوامل النابذة، قد تشكل مقدمة لسوريا جديدة، أما الهوة العميقة بين الموالاة والمعارضة فتحتاج إلى معجزة لتجسيرها.
٭ كاتب سوري
اكاد اقسم ان كل الامة العربية قد انتشر بينها البلوك والتبليك ان صح التعبير وبنسب اعلى بكثير من الشعوب والامم الاخرى !!!! انا مثلا مارسته ومورس عليّ في الحالة الفلسطينية مع من نسميهم سحيجة !!! بل ان صديقا سوريا منذ ايام اقامتي بالامارات قام بعمل بلوك وقطع العلاقة معي في الفيس بوك حين رآني اقف الى جانب ثوار سوريا !!! والحقيقة اني كنت اتوقع هذا لانني كنت اقرأ منشوراته واعرف انه من مؤيدي النظام !! وفي آخر تعليق له قبيل البلوك على منشور لي ضد النظام اتهمني بأنني داعشي ومن لحظتها لم اره ولم يرني !!!!