كنت أريد أن أكتب عما لاقاه الكتّاب والمفكرون على طول التاريخ من اتهامات باطلة من الحكام، الذين وجدوا من يؤيدهم في أحكامهم من الكتّاب الأقل قيمة، ومن شيوخ السلطان. لكن السوشيال ميديا وما يحدث فيها أخذني بعيدا، فضلا عن أن أيّ إحصاء لمن عرفوا مرارة السجن، أو النفي، أو التعذيب، أو القتل من الكتاب والمفكرين، يمكن أن يثير التشاؤم في روح أيّ قارئ.
لقد حدث معي ذلك منذ حوالي خمس عشرة سنة حين اشتريت ثلاثة أجزاء من «موسوعة العذاب» للمفكر العراقي عبود الشالجي، كانت هي ما وصل إلى مصر وقتها منها فهي سبعة أجزاء. أخذت أقرأ فيها، تقابلني أحداث مفزعة قام بها حكام لم نعرف عنهم في التاريخ إلا كل جميل، ارتكبوها في بعضهم، أو أسرهم أو منافسيهم، وأيضا في كتاب ومفكرين كثيرين. لم أستطع الاحتفاظ بالأجزاء الثلاثة في مكتبتي، ولم أحرص على شراء بقية الأجزاء، رغم أهمية وقيمة الموسوعة، كنت كلما رأيتها على رف من رفوف مكتبتي أرى رؤوسا مقطوعة، وأرجلا منزوعة، وأذرعا مشدودة على الصليب، وقطعا من أجساد الضحايا توضع في «التنور» أو ما نسميه في مصر بالفرن، قلت لأضحك التنورة أفضل، فهي ما أطلقه الشوام على «جوب» النساء ليعكس ما تحته من نار! تذكرت كيف حين طلب مني أحد الأصدقاء استعارة الكتاب أعطيته له دون نقاش، وكيف بعد عدة أشهر هاتفني ليأخذ موعدا لمقابلتي لإعادة الكتاب فقلت له لا أريده، اعتبره هدية مني. ضحكت وأنا أتذكر أنه الوحيد الذي استعار مني كتابا وقرر إعادته، لم يعرف هو أني بعد أن أعطيته الكتاب صرت أنظر إلى كتبي في المكتبة بسلام، وأراها ساكنة في محبة ومودة لا تفزعني.
لا يخلو التاريخ المعاصر في بلادنا من ذلك، لا تزال السجون مفتوحة للمفكرين وأصحاب الرأي والأمثلة بالمئات، لكن الحديث عن السوشيال ميديا، وهو يبعدني عن ذلك، يضعني وسط أزمة المجتمع.
في كل ما جرى للكتاب والمفكرين لم يكن للجمهور العادي رأي في المسألة باتساع. قضايا متفرقة على السنين ساعد عليها قانون الحسبة، الذي أيضا أصرت السلطة على وجوده، وهو القانون الذي يتيح لأي شخص أن يقاضي كاتبا أو فنانا، لكن كيف اتسعت مساحة تدخل الجمهور في المسألة؟ ليس قانون الحسبة فقط. منذ السبعينيات ارتفعت الأصوات في المساجد والإذاعات الدينية تهاجم الأدب والفن، وتعتبرهما حراما أصلا، ووصلت الأفكار إلى الناس العاديين فصار الكثيرون يؤمنون بذلك. مثلي وغيري كتبنا مئات المقالات ضد ذلك عبر السنين، لكن كل ما كتبناه ذهب أدراج الرياح، كما يقال. لم نكن نعرف أن الأمر وصل للجمهور العادي باتساع لأننا نحن الكتاب لا نقابل إلا أصدقاءنا أو بعض القراء في الندوات، لكن السوشيال ميديا كشفت الأمر، رغم وجود القراء المدركين لمعنى الكتابة، لكنك تفاجأ بالكثيرين جدا يعتبرون أن الحديث في راوية بضمير المتكلم، يعني حديث الكاتب ورأيه واعترافاته. غاب عنهم ما كُتب فيه كثيرا، من أن دور الكاتب يأتي من توحده مع شخصياته، وأن هذه آراء الشخصيات وإحساسها بالحياة، بل يمكن أن تكون رواية بضمير المتكلم، هي سيرة الكاتب وليست عملا من خيال، فيُسأَل عن كل ما فيها وكيف ارتكبه، وكيف لم يخجل مما جرى فيها من جنس مثلا، أو أفكار جانحة. ساعد على ذلك ما يتم نشره من فقرات من الرواية باعتبارها أمثالا وحكما على سبيل الترويج، فتُنسب للكاتب، وهي أصلا من أحاديث الشخصيات.. ما هو جميل منها يمر، وما يراه البعض غير جميل وفقا لثقافتهم، فيُسأل الكاتب على السوشيال ميديا، كيف كتبت هذا الكلام الذي هو ضد القيم والأخلاق. لا ينتبه أحد إلى أن قائل هذا الكلام هو إحدى الشخصيات في محنتها، ناهيك طبعا من أكذوبة القيم والأخلاق التي صارت شماعة يعلق عليها كل مختلف انتقاده.
كيف يتقدم المجتمع وقد صار في السوشيال ميديا جماعات مدفوعة الأجر تدافع عن كل خطأ، وتتهم بالباطل كل معارض بالتآمر على البلاد، فلا يستمع أحد للرأي الآخر. صارت السوشيال ميديا كاشفة لما تردينا إليه.
اتسع أمر الفقرات المأخوذة عن الروايات، بل صار الكثيرون من الكتاب بدورهم يتعمدون كتابة هذه «الخلاصات» خارج الصدق الفني، فالمهم أنها تعجب العقول الطيبة، دون إدراك من الكاتب، أنه ليست كل العقول طيبة، فقد تصبح دليل اتهام للكاتب، وعلى الكاتب بعد ذلك أن يصرخ أنه ليس كلامي، لكنه كلام الشخصيات، فتمر المسألة وقد لا تمر. هذا طبعا من تأثير ما حدث من تحول في عقول الكثيرين، بعد ما جرى من المشايخ وغيرهم في المساجد والإذاعات، ولا يزال فضلا عن التعليم، ولا تستطيع أن تقول لهم ما يقولونه عن أنفسهم، لا تتدخلوا في الأدب والفن الذي لا تعرفون معناه ولا مبناه، كما تأمروننا أن لا نتدخل بالحديث في الدين، فهو أمر لكم فقط وأنتم علماؤه! لا يستطيع كاتب أن يقول ذلك، لأنه يعرف أن الفن والفكر تتاح مناقشتهما للجميع فهما ليسا علما، كما أنه حين يصدر العمل الأدبي أو الفكري في كتاب، أو اللوحة في معرض، فهما سلعة للجميع الحرية في اقتنائها من عدمه والرأي فيها، فقط المشايخ الذين يقولون عن آرائهم ذلك، وعلينا أن نقتنع بها، والحكام يسعدون بهم، رغم أن كل ما يتحدثون فيه أفكار.
الحقيقة أن السوشيال ميديا صارت مربكة ومحزنة، رغم أنها صارت كاشفة لما وصلنا إليه، ولا يبدو أن هناك حلا إلا بتقدم المجتمع نفسه، لكن كيف يتقدم المجتمع والسوشيال ميديا، بعيدا عن الفن والأدب وما يناله من انتقاد يصل إلى الاتهام، تحفل بمن يدافع عن قاتل فتاة قيل إنه أحبها، لكنها رفضت الزواج منه. الآلاف يدافعون عنه، وبينهم من يفبرك الصور للفتاة ليجعلها خاطئة في سلوكها. ويتكرر الأمر نفسه لثلاث مرات حتى الآن، ما يكشف ما انتهت اليه النظرة إلى المرأة، لكن لا أحد يفكر كيف وصلنا إلى ذلك وما الحلول. يعتبرونها أحداثا فردية، وكأنهم يريدون قتلا جماعيا للنساء ليقتنعوا، أو كأن السوشيال ميديا للاتهامات فقط. كيف يتقدم المجتمع وصورة للفنانة العظيمة ميرفت أمين بلا ماكياج في عزاء المخرج علي عبد الخالق، أشعلت مواقع التواصل، وانهالت الشتائم عليها، وكيف أن الشيخوخة والعجز هما عقاب الله على أفلامها. أفلامها التي كانوا يجرون وراءها سعداء. تحول العمر الذي سيصل إليه الجميع إلى عقاب. لقد ظهر الآلاف يملكون مفاتيح الثواب والعقاب، بينما كنا تعودنا على ذلك من المشايخ فقط.. كيف يتقدم المجتمع وخبر قيل عن اتفاق وزيرة الثقافة مع وزير التعليم، على أن يخصص يوم في الأسبوع في المدرسة للفنون وتعليمها وممارساتها، واجه انتقادا كبيرا من الناس العاديين. كيف يتقدم المجتمع وقد صار في السوشيال ميديا جماعات مدفوعة الأجر تدافع عن كل خطأ، وتتهم بالباطل كل معارض بالتآمر على البلاد، فلا يستمع أحد للرأي الآخر. صارت السوشيال ميديا كاشفة لما تردينا إليه. يمكن جدا أن نركن إلى مقولة أمبرتو إيكو الفيلسوف والروائي الإيطالي، من أن السوشيال ميديا مكان للحمقى.. هذا قد يفيد الفرد نفسه إذا شاء الابتعاد عن الصخب الكاذب، وأنا أحسد أصدقائي الذين قدروا على ذلك، لكن هل يظل الأمر دون دراسة من قبل القائمين على الحكم نفسه، ليعرفوا إلى أيّ حال تردت الحياة الاجتماعية والفكرية والأخلاقية التي يخيفون الجميع بها، وبتهمة الخروج على القيم والأخلاق، ألا تكون دراسة السوشيال ميديا مدخلا لدراسة حالة الناس النفسية والعقلية، وكيف يمكن إدراك الخطأ والصواب وبسط العلم والثقافة لإصلاحه. لن نصل مع أي دراسات للمدينة الفاضلة حقا، لكن نصل حتى إلى بابها. أم أن السلطات لا ترى غير الوجه الذي لا تحبه في السوشيال ميديا، وهو كشف ما تفعله هي من أخطاء، ومن ثم صار جحيم الناس في بعضها جنة لها؟
روائي مصري
مبدئيا التواصل الاجتماعي صارت ضرورة بعد القمع الدموي الذي تمارسه السلطات الحاكمة، عسكرية أو استبدادية، وقانون الحسبة يحكم القضاء فيما اختلف حوله الناس، وهناك من كتاب الأنظمة وشبه الموهوبين من يسعون إلى إثارة الضجيج بالحسبة أو غيرها من أجل الشهرة وما يسمونه التحقق، ولا أظن أحدا في الإسلام أيا كان وضعه يملك مقانتيح الجنة أو مقامع الجحيم. الناس تعبر عن رأيها فيمن يريدون فرض آرائهم وثقافتهم وأيديولوجياتهم بالقوة . ولا أظن أحدا شتم الممثلة ميرفت أمين، ولكن ما جرى كان نشرا صحفيا للصورة علق عليها الناس بتقلبات الزمان وتغير الأحوال، وهو ما يعترف به كل إنسان عاقل.. حين يتخلى الطغاة عن الاستبداد، وعن القمع، وعن تكميم الأفواه تهدأ الأمور، ويتحدث الناس فيما يفيد. ألا ترى عناوين الصحف الكبرى لا تحمل خبرا واحدا يخص مصائر الوطن وتناقشه بحرية وجدية، ولكن عناوينها كلها أو معظمها تدور حول أهل الفن وأخبارهم الشخصية، ولاعبي كرة القدم وأمورهم الذاتية، ثم يأتي خبر في خجل وحياء عن صرف المعاشات أو المرتبات، وقد يحل مكانه حادثة أو جريمة أو قبض على أحد الأشخاص. نسأل الله العافية.
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. نعم لقد صار جحيم الناس جنة للسلطة والتسلط على العباد! بفعل جهود السلطة (الشريرة) المباركة! وسائل التواصل مثل أي اكتشاف علمي أو فكري أو ثقافي أو إجتماعي، يتعلق الأمر في كيفية استغلالها بإرادة طيبة أو بإرادة شريرة. عندما أرى كيف يقود الفيسبوك سياسة ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني ودعمًا للإحتلال الإسرائيلي أتعجب من أمر بعض البشر! من أين تأتي هذه الإرادة الشريرة لقمع الإنسان الذي يبحث عن العدالة والحرية والكرامة. في النهاية أستطيع القول ليس المشكلة في هذا التطور البشري فوسائل التواصل هي تطور ولكن على عكس مايرى البيرتو كامو، يمكن القول ياللعجب لقد أصبح للحمقى مكانًا في وسائل التواصل! وماعلينا إلا بالتغلب على هذه المعضلة بمزيد من العلم والثقافة والتطور الإجتماعي.