تونس – عائشة يحياوي، هيثم المحضي: يتفق أغلب المتدخلين في الاقتصاد التونسي على أهمية الحدّ من توسّع السوق الموازية للعملة، أو ما يعرف بالسوق السوداء، باعتبار تداعياتها الوخيمة على مستوى تقليص حجم العملة المتداولة، ورفع معدل التضخم.
ونظرا لغياب بيانات رسمية حول حجم هذه السوق، فمن الطبيعي أن تتضارب الأرقام حولها، قبل أن يحسم محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، الضبابية المخيمة على هذا الملف.
وفي تصريحات إعلامية، قال العباسي إنّ حجم الأموال المتداولة في السوق الموازية يبلغ نحو 4 مليارات دينار (ما يعادل نحو 1.33 مليار دولار)، منها 2 مليار دينار (668 مليون دولار) يتم تداولها بالمناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر.
وحذّر العباسي من التأثير السلبي لهذه السوق على الاقتصاد المحلي، مؤكدا ضرورة تضافر كلّ الجهود من أجل الحدّ من توسّعها.
شح السيولة والتضخم
عبد الجليل البدوي، الخبير الاقتصادي، اعتبر أنّه “مهما كان حجم هذه الأموال (في السوق السوداء)، فإن من شأنها أن تخلق شحّا في السيولة لدى البنوك”.
وأضاف البدوي، أن “شحّ السيولة سيساهم في تزايد لجوء القطاع البنكي إلى إعادة التمويل من البنك المركزي التونسي”.
وبخصوص التداعيات، حذر الخبير من أن “أوّل تأثير للسوق السوداء على الاقتصاد الوطني هو التضخم المالي (أسعار الاستهلاك) باعتبار أن زيادة السيولة سيساهم في زيادة الطلب”.
واعتبر البدوي أن “حجم السوق السوداء يتجاوز 4 مليار دينار (1.33 مليار دولار)، ويمكن أن يصل إلى 6 مليار دينار (2 مليار دولار)”، مؤكدا أنه “مهما كان الرقم، فمن شأنه أن يخلق إشكالا”.
ولفت الخبير إلى أن “جانبا من السيولة المتوفرة يتم تداولها في قطاع غير منظم”، مشيرا أن “القطاع (السوق السوداء) يتعامل نقدا ليتهرّب من الضرائب والمراقبة”.
ووفق الخبير، فإن “الاقتصاد التونسي لا يحقّق نسبة نمو مرتفعة في الإنتاج (أي العرض)، ما يعكس خللا بين العرض والطلب”.
وأكد البدوي “السوق السوداء تزيد في نسبة التضخم مباشرة عبر الزيادة في السيولة، أو عبر الزيادة في تكاليف الاقتراض للعائلات والمؤسسات”.
وبالنسبة له، فإن “شحّ السيولة ناتج عن السوق السوداء التي تتغوّل لأنها بدورها تحصل على العملة التونسية حين تبيع الأجنبية”.
تغيير العملة.. الحلّ
وللتصدي للسوق السوداء، خصوصا في المجال النقدي، اقترح البدوي “تغيير العملة لكشف حجم الثروات الموازية، وبالتالي يقع إخضاعها للضرائب”.
واعتبر أنّ الإجراءات التي تمّ اتخاذها للحدّ من توسع السوق الموازية “إجراءات غير مجدية، طالما هناك دائما إمكانية تحايل وتهرّب”.
وشدد على أن “تغيير العملة هو حلّ لمشكلة السيولة وأيضا حلّ لإشكال العجز في الميزانية العمومية (الموازنة العامة)، وهو أيضا الحلّ لآفة السيولة والتهرب الضريبي، وتهريب العملة الصعبة”.
وحذر من أن “السوق السوداء تدفع دائما في اتجاه تدهور قيمة الدينار، مع ما لذلك من تداعيات على الميزان التجاري والتضخم”.
غياب التنمية
الخبير الاقتصادي محمد الصادق جبنون، أشار من جانبه، إلى أن “هذه السوق الموازية موجودة أساسا بمناطق الجنوب الشرقي والوسط، ما يعكس غيابا لبدائل تنموية في تلك المناطق”.
واعتبر جبنون أنّ “ظاهرة السوق الموازية تعود أيضا إلى تكلّس (تجاوزتها الأحداث) منظومة الصرف التي تم إحداثها منذ 1976، وتمنع التونسيين المقيمين من امتلاك حسابات بالعملة الصعبة”.
ولفت إلى أن “السوق الموازية تعتبر أكثر تنافسية من السوق الرسمية”.
ومستندا إلى بيانات “مؤسسة التراث” الأمريكي، قال جبنون إن تونس “تراجعت إلى المرتبة 125 في مجال الحريات الاقتصادية، وحرية نقل العملة”، معتبرا أن “هذه الحريات ضرورية، وشرط رئيسي للاستثمار وخلق مناخ من الثقة”.
وخلص إلى أن “الأزمة الاقتصادية وتراجع قيمة الدينار التونسي مع المضاربة على العملة، كلها عوامل ساهمت في تفاقم ظاهرة السوق السوداء”.
سوق مالية متطورة
جبنون رأى أيضا أن “المتدخلين الاقتصاديين في حاجة إلى التعامل في سوق مالية متطورة بنسبة كبيرة من الحرية والمرونة”.
وذكّر الخبير بتصريحات لمحافظ البنك المركزي قال فيها، إن “هناك توجها لرفع القيود على نظام مراقبة الصرف، سيجعل تونس في درجة أقل تنافسية مقارنة بعدة دول مثل ليبيا وتركيا ودبي وقبرص”.
ومعقبا على ما تقدم، اعتبر جبنون، أن ذلك “من شأنه أن يؤدي إلى ضياع فرصة إحداث سوق مالي متطوّر، خاصّة أمام انفلات العجز التجاري وتراجع الاحتياطي من العملة الصعبة”.
وموضحا: “القطاع غير المنظم سيستحوذ على جانب كبير من الأموال التي كانت ستوجه إلى المنظومة الرسمية، وذلك لغياب التنافسية والمراهنة على ارتفاع اليورو والدولار أمام الدينار التونسي”.
وحذر جبنون من “فرص اقتصادية مهدورة جراء تنامي القطاع الموازي وعدم وجود إرادة حقيقة لاستيعاب هذا القطاع”.
وفي ما يتعلّق بمشروع قانون إلغاء التعامل نقدا، قال الخبير: “لا أرى أن هذا الإجراء سيعطي نتيجة إيجابية”.
وفسّر جبنون ذلك بأنّ “نسبة التغطية البنكية ضعيفة، إذ أنّ 2.4 مليون تونسي ليس لديهم حسابات بنكية ولا بريدية”.
مكاتب الصرافة
وتنتشر تجارة العملة بكثرة في المناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر، خصوصا جنوبي البلاد، حيث توجد مكاتب الصرافة في 3 محافظات هي مدنين وقابس وتطاوين.
وتقع أغلب هذه المكاتب في مدينة بن قردان (تابعة لمحافظة مدنين) الحدودية مع الجارة ليبيا، وينتشر قرابة 300 مكتب صرافة على الطريق المؤدي إلى معبر راس جدير الحدودي بين البلدين.
ومن السهل تمييز هذه المكاتب عن غيرها، فهي عادة ما يضع صاحب المحل صندوقا أزرق كبيرا أمام مكتبه، ويكتب عليه بالخط العريض “صرف”.
ووسط مدينة بنقردان، يوجد شارع كامل لتداول الصرافة، ويسمى هناك بـ”شارع الصرف”، وعادة ما يشهد هذا المكان اكتظاظا كبيرا من قبل الليبيين.
وفي هذا الشارع بالذات، تتجاور مكاتب الصرافة مع فروع لـ6 بنوك تونسية.
وبالقرب من هذا الشارع تقع “الرَّحْبَة”؛ وهي نقطة يقصدها “الصَرّافَة” يوميا لشراء وبيع العملة بالجملة، ولهذا المكان تأثير كبير على أسعار الصرف المتداولة في بقية الأماكن خلال ذلك اليوم.
وتوفر مكاتب الصرافة مورد رزق لأكثر من 700 عائلة في بن قردان، فعادة ما يتداول العمل في المكتب الواحد شخصان أو أكثر.
رضوان العزلوك، وهو عامل في مكتب صرافة ببن قردان، قال إن “هذا العمل لا يخضع حتى الآن، لأي قانون منظم من قبل السلطة”.
وأضاف العزلوك: “طالبنا في أكثر من مرة بدخول المسلك الاقتصادي الرسمي (الدورة الاقتصادية الرسمية) عبر تنظيم هذا القطاع، مثل ما هو موجود في العديد من الدول، ولكن دون جدوى”.
وتابع: “قبل عامين، اقترحت الدولة التونسية مشروع قانون لتنظيم هذه المهنة ولكن تمّ رفضه لأنه تضمن شروطا تعجيزية، حيث اشترط – مثلا- على كل شخص يريد دخول
هذا المجال، وضع وديعة في البنك المركزي بقيمة 50 ألف دينار (نحو 16.5 ألف دولار) مقابل تمكينه من ترخيص للعمل”.
وبخصوص مستوى حجم التداول اليومي للعملة في مكاتب الصرافة داخل مدينة بن قردان، لفت العزلوك إلى أنها تناهز 4 مليون دينار (1.33 مليون دولار) يوميا. (الأناضول)