مع انضمام السويد إلى الناتو تكون الدائرة الأوروبية الشمالية الغربية المتاخمة لروسيا أو القريبة منها قد اكتلمت؛ وذلك بعد انضمام فنلندا التي ترتبط بحدود برية طويلة مع روسيا تمتد على نحو 1300 كم. أما عن أهمية دخول السويد إلى النادي الأطلسي فهي تكمن في كونها الأكبر بين الدول الاسكندنافية ودول الشمال التي باتت جميعها أعضاء في حلف الناتو، وربما هذا ما دفع برئيس الوزراء السويدي أولف كريستسون إلى القول: لأول مرة منذ 500 عام تعتمد دول الشمال نظاماً دفاعياً مشتركا.
والسويد باعتبارها كانت قبل نحو 300 عام من القوى العظمى في منطقتها، ودخلت في جملة حروب مع جوارها، منها حروبها مع روسيا التي كلفتها الكثير، وأرغمتها على التزام حدودها، والتنازل عن فنلندا. ونتيجة لذلك تمسّكت بسياسة الحياد والابتعاد عن الحروب على نحو أكثر من قرنين من الزمن، بينما نراها اليوم تستعد لإرسال قوات عسكرية إلى لاتفيا لدعمها، ودعم جارتيها استونيا وليتوانيا في مواجهة أي خطر روسي محتمل.
وربما لا نبالغ، إذا قلنا: إن إنجاز هذه الخطوة، هي بالنسبة إلى حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية أمر لا تقل درجة أهميته عن خطوة منع بوتين من الانتصار في حربه على أوكرانيا، وذلك ضمن الحسابات الجيوسياسية البعيدة المدى.
فالخاصرة الأوروبية الرخوة إذا صح التعبير، أصبحت بفضل امكانيات السويد من جهة الموقع الجغرافي، وعلى صعيد التقدم التكنولوجي في ميداني الاتصالات والأسلحة، من الأركان الصلبة في حسابات الناتو الخاصة بالتعامل مع نزوع بوتين الامبراطوري، وهو النزوع الذي قد يتراجع أو يتلاشى مع رحيله عن الحكم نتيجة تفاعلات السياسة الداخلية الروسية، أو بناء على المشيئة الالهية التي لم تمنح الخلود لأي من بني البشر، وذلك على نقيض رغبة الكثيرين من الحكام. ولعل هذا ما يفسر النبرة التهديدية في خطاب بوتين الأخير أمام مجلسي الدوما والاتحاد، وذلك أثناء إشارته إلى دوافع وأبعاد عضوية كل من فنلندا والسويد في الناتو.
أما مستقبل الحرب الروسية الأوكرانية، فستتبلور ملامحه على الأغلب عبر حوارات ومفاوضات سياسية تعقد بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ستسفر في نهاية المطاف على الأغلب عن حل يصنف في خانة رابح – رابح.
فبوتين يحتاج إلى شيء يبيعه للروس، وما يضمن استمرارية هيبته داخلياّ وخارجياً. والأوكرانيون عموما ليسوا في وارد التنازل بصورة رسمية ونهائية عن مناطق كانت ضمن إطار سيادة دولتهم تعرضت لاحتلال روسي، وخضعت لعمليات ضم استعراضية أشرف عليها الرئيس الروسي نفسه.
مشكلة روسيا الأساسية أنها لا تدرك أن دورها كقوة عظمى ندّية للولايات المتحدة على صعيد السياسة العالمية قد انتهى مع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق؛ وهو الدور الذي حصّلته أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. فروسيا ما زالت ترى في نفسها امتدادا للاتحاد السوفييتي من جهة القوة وليس الأيديدولوجية. وهي تعتقد بأنها بفعل الترسانة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، وهي ترسانة يعتقد أنها باتت بدائية مقارنة مع مستوى التقدم النوعي الذي حققه الغرب في ميدان مختلف الأسلحة؛ قادرة على مواجهة الغرب المتقدم عليها في كل شيء.
كما أن مراهنتها على دور صيني، أو ربما هندي، داعم لم تسفر عن شيء، بل على النقيض من ذلك وجد البلدان في الطريقة الروسية لمعالجة قضايا خلافية مزعومة مع أوكرانيا نهجاً لا ينسجم مع طبيعة المصالح والحسابات الخاصة بهما.
وكان من الواضح أن بوتين يراهن على الدور التركي والمجري في عرقلة انضمام السويد إلى الناتو، وهو الأمر الذي امتد بالنسبة إلى السويد على نحو عامين تقريبا، ولم تتم تسويته إلا بتدخل أمريكي مباشر، سواء لدى الجانب التركي أم المجري؛ وذلك بعد مناقشة طلبات وهواجس كل طرف.
فبالنسبة إلى تركيا كان من الواضح أنها تتطلع نحو دور إقليمي أكبر من ذاك الذي أُتيح لها؛ وذلك في أجواء الهمينة الإيرانية على قرار دولتين مجاورتين لها (العراق وسوريا)؛ والجفاء الذي كان بينها وبين غالبية الدول الخليجية، لا سيما السعودية. ورغم محاولاتها الكثيرة لإحداث اختراقات في أكثر من مكان، سواء في ليبيا أم في آسيا الوسطى، أو حتى في القرن الأفريقي (الصومال تحديداً)، أو في بحر إيجة؛ إلا أنها عانت بصورة شبه مستمرة من واقع توتر العلاقات، وأجواء عدم الثقة، بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن يبدو أن الأمور في نهاية المطاف قد وصلت بين الدولتين إلى شاطئ التفاهمات الجيوسياسية الاقتصادية الضرورية ولو في حدودها الدنيا؛ وهذا فحواه حدوث انعطافة متوقعة في الموقف التركي تجاه الاستمرار في خط التفاهمات مع روسيا، وهي التفاهمات التي كانت روسيا تريدها أرضية لتحالفات استراتيجية مستقبلية. بينما كانت تركيا تحرص على أن تبقى تلك التفاهمات ضمن الإطار التكتيكي، لاستخدامها من بين أدوات الضغط لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة، خاصة في أجواء اعتماد الأخيرة على «قسد» الواجهة السورية لحزب العمال الكردستاني في حرب التحالف الدولي على تنظيم داعش (الكوكتيل المخابراتي) الذي استثمرت فيه الأجهزة الإقليمية والدولية، وكان لهذا التنظيم دور أساسي في تغيير اتجاهات الرأي العام العالمي، والمواقف الدولية من ثورة الشعب السوري.
وفي فترة التوتر هذه بين الحليفين الاستراتيجيين (تركيا والولايات المتحدة) بموجب الوثائق الرسمية، كان مسار أستانا الذي جمع بين روسيا وكل من تركيا وإيران، وهو المسار الذي حفر الخنادق تحت مسار جنيف الأممي الخاص بمحاولة الوصول إلى حل في سوريا، أدّت عملياً إلى انهياره. وبالتوافق مع التوتر المشار إليه، كان تفاقم المشكلات الاقتصادية في تركيا، وهي المشكلات التي تمثلت في تراجع قيمة الليرة، وارتفاع الأسعار، ووصول التضخم إلى مستويات قياسية. هذا إلى جانب الانشقاقات السياسية ضمن حزب العدالة والتنمية، والحد من حرية الصحافيين…الخ.
ولكن يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان قرر، بعد فوزه بفترة رئاسية جديدة في ربيع العام المنصرم (2023)، إحداث انعطافات حادة في سياساته الإقليمية والدولية، سواء تجاه السعودية أم مصر، وحتى مع إسرائيل، كما قرر بناء على التفاهمات مع الأمريكان الموافقة على عضوية السويد في الناتو، وهو الأمر الذي يُستشف منه حدوث تحوّلات إقليمية وحتى دولية مقبلة.
أما بالنسبة إلى المجر، فيبدو أن رئيس الوزراء فيكتور أوربان كان يراهن على فوز، أو على الأقل تقدم نوعي واضح للروس في أوكرانيا، ولكن، وبعد مررو عامين على الغزو الروسي لأوكرانيا، تبين له أن بوتين لم، ولن، ينتصر ذاك الانتصار الذي توقعه، أو تخيله، وان الأمور ستنتهي في نهاية المطاف بصفقة تسوية تضمن لأوكرانيا سيادتها المشروعة ولروسيا سمعة القوة العظمى، هذا ما لم يحصل ما هو أسوأ.
من جهة ثانية يواجه أوربان نفسه مشكلات داخلية ناجمة عن سوء الإدارة والفساد، ونزعة الهيمنة، وكل ذلك يتفاعل مع التجربة المجرية المريرة من الاتحاد السوفييتي السابق، وتحرك الشعب المجري في خمسينات القرن الماضي مطالباً بحرياته، ودخول الدبابات الروسية إلى بودابست عام 1956 لقمع الشعب المجري المطالب بالحرية والكرامة والعدالة.
فالشعب المجري يرى اليوم، كما كان يفعل بالأمس، أن مستقبله هو مع أوروبا الحرة، وليس مع روسيا المتغطرسة في ظل قيادات مستبدة فاسدة مفسدة.
وقد ظل أوربان يماطل ويسوّف في مسألة الموافقة على عضوية السويد في الناتو، الأمر الذي كان من الواضح أنه يتناغم في واقع الحال مع طبيعة علاقته الخاصة مع بوتين.
ولكن، وبعد الموافقة التركية على العضوية المعنية، لم يجد أوربان أمامه سوى طريق الانصياع للضغوط الأمريكية والأوروبية، لا سيما بعد الحركة التي أقدم عليها بخصوص تعطيل، أو تأخير حزمة مساعدات الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، الأمر الذي دفع بالأوروبيين نحو البحث عن خيار آخر لتجاوز تبعات الموقف المجري المعرقل؛ وهذا ما أفهم أوربان بأن تحركه لن يؤدي إلى ما يتوخاه، بل على العكس من ذلك سترتب عليه عواقب سلبية بالنسبة إلى حزبه في الداخل المجري.
وفي المقابل، قد تكون هناك تفاهمات حول الأوضاع في العراق، وبالتحديد في إقليم كردستان العراق في اتجاه منحه المزيد من الاستقلالية في ظل الأجواء السياسية الملبدة المخيمة على العراق ككل، وعلى المنطقة برمتها. وذلك نتيجة التغلغل الإيراني في مفاصل الدول والمجتمعات، وتفاعل بعض القوى المحلية الميليشياوية مع ذاك التغلغل.
التطورات في المنطقة، وعلى المستوى العالمي، متسارعة. والأضواء حالياً مركزة على غزة حيث المجازر المستمرة بحق المدنيين المغلوبين على أمرهم؛ ولكن ماذا بعد غزة فلسطينياً وشرق أوسطياً ودولياً؟ هذا هو السؤال المحوري الذي يتفرع عنه ألف تساؤل وتساؤل.
*كاتب وأكاديمي سوري