يقولون لا يكن لك من الوضوء سوى البلل، ولا الجوع من صيام رمضان، فقد تركت لب الأمور الى قشورها. مرّت سنة على مقال كتبته بعنوان دعوة للتأمل (مقال منشور في إبريل/نيسان 2020 في «القدس العربي») بعد أن باغتت العالم جائحة وبائية جعل منها السفر وتقدم المواصلات، تنتشر انتشارا لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. فهل تأملنا؟ هل وقفنا مع أنفسنا، وتغيرت حياتنا؟ ماذا استفدنا من هذه الجائحة، ألم يقل تشرشل لا تدع الأزمات تذهب سدى.
لا نتحدث هنا عن أنظمة التعليم والصحة، فذلك شأن الحكومات إن ارادت أن يوقظها دوي صوت إنذار التحذير، الذي يشبه في رعبه صفارة الهجوم الجوي في الحروب. أتحدث عن الإنسان.. عني وعنك، ماذا استفدنا من هذه الجائحة التي ما زالت تراوح مكانها بقسوة، إذ لم يخيل لي أن مداها الزمني سيتعدى العام.
التساؤل الواضح وضوحا صارخا من الصعب تفاديه هو، ما مدى قدراتنا على تنظيم أنفسنا؟ فقدرة المجتمعات على تنظيم نفسها يعكس وعيها وتحضرها. وكذلك قدرتها على تطويع التحديات وقلبها لصالحها، تعكس مدى قدرتها على المقاومة، وعدم الانهزام. إن لم يتغير فكرك، وأسلوبك المعيشي ونظرتك للأمور، فما عساه أن يغيرك؟ رأيت في الحظر فوائد جمة، اجتمعت العوائل، وفهم الناس كم هو ثمين الوقت الذي يقضونه مع أبنائهم، وأن التكنولوجيا قلبت العالم رأسا على عقب، فما عاد الاستثمار في المباني هو المطلوب، بل البنية التحتية الرقمية هي الأولى.
لدينا هواتف ذكية وأنظمة ذكية ليس هناك شيء إلا وأضيفت له كلمة ذكية، لربما حتى نعيش حياة ذكية، فيها من القرارات وطرق العيش ما يمكننا من استغلال الوقت والموارد بشكل أمثل. نشتكي من قرارات الحظر، وهو على العكس فيه من الفوائد ما يمكن أن يبنى عليه في تشكيل سياسات تنموية ذكية ـ إن صح التعبير- في دول كثيرة خاصة تلك التي تقدس العمل تغلق المحلات -خاصة الهابيرماركت – في أول المساء وتبقى المطاعم والمقاهي، إن ارادت، أليس في ذلك احترام للحياة العائلية للعاملين في هذه المتاجر؟ وهل توضع سياسات الشغيل بمنأى عن السياسات الاجتماعية وواقع حياة الناس؟ كثيرة هي القرارات التي تتخذ لتحقيق النمو الاقتصادي ولتمكين المرأة، ولتحقيق توطين الوظائف في دول الخليج، إلا أنها تغفل أن الأسرة أساس المجتمع القوي. لا بد من النظر إلى حياة الإنسان، وكيف يقضي وقته، وما هو نوع الحياة التي يعيشها، كلها تنصب في المعنى الدقيق لجودة الحياة. قرار الحظر في دول الخليج يعيد ترتيب الأمور، ويحيد المنافسة بين ابن البلد، الذي لا يستطيع أن يقضي نهاره وليله في محله، من دون أن تكون له حياة أسرية. هل هي مسألة أولويات ما بين تحقيق التوطين والنمو الاقتصادي، وما بين بناء مجتمعات قوية متماسكة وطفل صحيح البدن والنفس والعقل.
ذكاء السياسات أن تدخل في تفاصيل حياة الإنسان وتغوص لتفهم ما يحتاجه الإنسان، وفي أي اتجاه ينبغي أن تسّير طاقاته
دول الخليج شعوبها فتية، سياستها يجب أن تبنى حول التأسيس لحياة اجتماعية صحية، يستطيع فيها الشباب الزواج بلا تعقيدات، وتربية الأطفال بما يحمل الآباء والأمهات مسؤولياتهم. ألم نر كيف نسف فيروس كورونا بذخ حفلات الأعراس، وإن الأصل البساطة؟ ساعات العمل من المنزل أعطت الأسر مرونة هم في أشد الحاجة لها، فهل سنشهد تغيرا في مرونة التشريعات لهذه النقطة؟ هل سنرى سياسات تحفظ حق المرأة في العمل والترقي ليس على حساب أمومتها؟ والحقيقة ليس ذلك تمكينا للمرأة فحسب، بل حفظا على مهارات قد تفقدها الدولة بتعطيل ما تمتلكه المرأة من قدرات. هل تدرك دول الخليج أن نقاط قوتها في تعزيز الحياة المتزنة لأبنائها؟ حتى تمكنهم من أداء دورهم الأساسي والمحوري في التنمية.
السياسات تتغير بمرور الزمن، تصبح أكثر ذكاء، والدول تتخذ ما يناسبها من قرارات. ذكاء السياسات أن تدخل في تفاصيل التفاصيل لحياة الإنسان، لا تترك شيئا للصدفة، بل تغوص لتفهم ما يحتاجه الإنسان، وفي أي اتجاه ينبغي أن تسّير طاقاته. هناك حاجة إلى حزمة جديدة من السياسات التمكينية تضم تحت طياتها جودة الحياة والتكنولوجيا والاقتصاد والتعليم. وكل وحظر، وأنتم بخير، فهذه مرحلة مؤقتة، والقوي من يتعلم من الأزمات.
كاتبة عمانية
جميل مقال طيب رائع