العالم أكبر من خمس دول تتحكم في مصير الأمم والشعوب وفق قانون وضعه المنتصرون في الحرب الكونية الثانية. وهذا الواقع الدولي وصل ذروة عقمه القانوني والسياسي، ولم يعد قابلا للاستمرار. وما يشهده العالم اليوم من تعقيدات في الصراع الدولي والتحدّيات العالمية في شرق آسيا، وعلى الجغرافيا الأوراسية، وكذلك في افريقيا والشرق الأوسط. جميعها تنبئ بمرحلة جديدة معقدة، قد تحيل مرحليا على استفاقة بعض الشعوب المغلوبة على أمرها، وانتفاضتها ضد أنظمة استعمارية قديمة ومتجددة، وأيضا وضع خط عريض تحت ما يسمى النظام الدولي القائم على قواعد.
يكفي حجم الدمار الذي لحق بالمنطقة منذ التدخل الأمريكي البريطاني في العراق، ومسارات الفوضى والتخريب التي تلتها، لقد دعموا سياسة واشنطن تجاه العراق، باعتبار ذلك ايذانا بنظام عالمي جديد خططوا له. ولا يمكن أن نُصدّق أنّ أصحاب المصالح ودعاة الهيمنة والتنافس على النفوذ، يعنيهم تغيّر المشهد السياسي أو الاقتصادي في المنطقة، على نحو ترسيخ العدالة الاجتماعية، بديلا للطغيان السياسي والفوضى والتخلف البنيوي. فما حدث في أفغانستان والعراق في الفترة التي تلت تدخّل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هناك، تمّ تكراره في سوريا وليبيا. ومحاولة تغيير النظام بالقوة أدّى من جديد إلى العنف والفوضى المنتشرة إلى الآن. والمشهد يتكرر في السودان، وفي دول افريقيا جنوب الصحراء، حيث الفقر المدقع، نتيجة الاستعمار الفرنسي الجاثم على هذه الدول منذ عقود. إلى درجة تجعل التساؤل مشروعا حول ما يحدث في النيجر والغابون، وقبلهما مالي وبوركينا فاسو: هل هي عمليات انقلابية، أم محاولات استقلالية عن المستعمر القديم؟ فمن غير المعقول أن دولا غنية بالموارد التي لا تقف عند حدود اليورانيوم والذهب والبترول، تواصل حكوماتها إهدار هذه الثروات القابلة للنضوب، والتفريط فيها لدول استعمارية تستنزفها، ولا تقدم لشعوب هذه الدول سوى الفتات الذي لا يخلصها من حالات الفقر والخصاصة. في حين يمكن أن تشكل لها هذه الموارد نافذة للتطور، وفرصة للتغيير والتقدم والازدهار، لو قامت باستغلالها بالشكل الأمثل لفائدتها، عوض أن تفرط فيها للغرب، وإلى المتموّلين الموالين له، والمتعاونين معهم في سبيل البقاء في الحكم، بغطاء أجنبي يرون كيف أنه لا يدوم. وأشكال الدعم والاحتفاء الشعبي بمن يسمونهم انقلابيين، تكفي لتعكس تطلعات شعوب مقهورة وآمالها الحقيقية.
على باريس التوقف عن الدعم العسكري للعائلات الحاكمة منذ الستينيات، وللديكتاتوريات الدموية والمرتشية، وإنهاء التبعية المتجسدة في الفرنك الافريقي ومؤسسة الفرنكوفونية
صارت المواطنة في عيون كثير من الناس اليوم، مجرد فعل من أفعال شراء السلع وبيعها بمن في ذلك المرشحون، ولم تعد فعلا من الأفعال التي تزيد رقعة الحريات والحقوق من أجل خلق ديمقراطية حقيقية. الولايات المتحدة، لا تزال دولة خارجة عن القانون، كما يصفها تشومسكي، يشهد عليها في ذلك حلفاؤها وزبائنها الذين يفهمون حقا أن القانون الدولي «حيلة» و»قناع» يضعه الأقوياء على وجوههم حين الحاجة، ويحددون درجة الشفافية الملائمة لكل حالة، وذلك السلوك له من الحصانة ما يحميه لدى المجتمع الثقافي الذي له من الحدود القليلة التي يمكنه أن يخدم بها السلطة. والأسوأ في ذلك أنّ الروابط الإنسانية أهم ضحية من ضحايا الحداثة والنيوليبرالية التي عززت نوعين من التفاوت الاقتصادي، الأول هو التفاوت بين الطبقات داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، ثم ثانيا التفاوت بين الدول الغربية التي لم تنفق بعد كل الامتيازات التي حظيت بها من الاستعمار، وبين دول العالم الثالث التي كانت ضحية هذا الاستعمار. وما يسمى النظام العالمي الجديد، هو جديد فقط في تبنيه سياسات قديمة من الهيمنة والاستغلال مع اختلافات شكلية عارضة، بهدف الإبقاء على دول وشعوب العالم في أماكنها الصحيحة التي تخدم مصالح الغرب الصناعي ورأسماليته المتوحشة. وما هو مؤكد بالنسبة للإدارة الأمريكية الآن هو أنّها تعمل على أن تكون المنطقة ذات مستوى أعلى من الاستقرار، وعدد أقل من الحروب التي قد تنجر إليها الولايات المتحدة. وأن تكون المنطقة منفتحة أقل على الإرهاب، الذي يهدد الأمريكيين، ومنطقة تساعد في ضمان أمن الطاقة في العالم. لسنا مضطرين للعيش في نظام يدفع فيه أصحاب المليارات معدلات ضريبية أقل من العاملين.. لسنا مضطرين للعيش في شكل من أشكال رأسمالية الدولة، حيث تتم سرقة أصحاب الدخل الأدنى لمصلحة جزء بسيط من السكان.. يجب عليهم التغيير، وعلى فرنسا أن تبادر بإخراج سفيرها لا أن تجعل منه متراسا أخيرا لأمانيها بعودة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة على نحو التعلل بهذا السفير، وما يمكن أن يحدث له سيكون سببا للتدخل العسكري، وبالتالي عودة امتيازاتها في استغلال موارد النيجر. على باريس التوقف عن الدعم العسكري للعائلات الحاكمة منذ الستينيات، وللديكتاتوريات الدموية والمرتشية، وإنهاء التبعية المتجسدة في الفرنك الافريقي ومؤسسة الفرنكوفونية وسياسة القواعد العسكرية. فافريقيا ليست مجرد احتياطي للموارد، أو مصدرا للنهب وسرقة ثروات شعوب مظلومة، من أجل رفاه أوروبا. لنتساءل معا: من المسؤول عن خلق هذه الهوة الفادحة بين الشمال والجنوب، وما انجر عنها من تزايد معدلات الفقر والتهجير القسري، وكذلك أزمات الغذاء والطاقة والمناخ؟ من يتجاهل مشكلات البلدان النامية وخاصّة القارّة الافريقية التي جعلوا منها فقيرة، ولا ينظر لهذه المناطق سوى بعيون استعمارية استنزافية؟ بالتأكيد من يسمون أنفسهم دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، هم الغرب الرأسمالي، سمِهم ما شئت: مجموعة السبع، أو تحالف التبعية بقيادة أمريكا. هؤلاء من عززوا وضع الهيمنة والنفوذ بين الدول، وخلقوا الحروب والأوبئة لتحريك اقتصاد الأدوية ومجامع الصناعة العسكرية. وفي النهاية ينظرون إلى العالم، وهو يتجه إلى مسارات مدمرة بفعل سياساتهم، ولا يستطيعون حتى منع كارثة مناخية في إطار مؤسساتهم الرأسمالية التي بشروا بها على أنها مُخلِّصة للبشرية. لقد سلطوا اهتماماتهم على الربح أكثر من أي شيء آخر، وأدخلوا العالم في مرحلة من الكساد والحروب والأوبئة والأزمات المتعددة، وغيبوا السلام والأمن الدوليين، تلك حداثتهم وليبراليتهم وما يعبدون.
في سياق هذه الحداثة التي شاخت وانتهت مشروعا مهزوما ومهدود الأركان بأجنحة ليبرالية منتكسة، لا يسمحون في سياقها التاريخي بأن تكون «العدالة» للجميع، أو أن يرتقي هذا المصطلح فوق أي حدود سياسية أو جغرافية، يريدونها فقط دولا ضعيفة غير متجانسة، تستسلم دائما لإرادة الهيمنة، ولأدبيات التطويع والإخضاع. حتى أنهم دعموا مظاهر الخلل السلطوية التي تغيّب البدائل الواقعية لتطوير الحياة السياسية والاقتصادية للدولة الوطنية. على العكس، تركوها تصارع الإكراهات الخارجية ومنطق التضييق المالي واقتصاد الأوامر الفوقية من قبل المؤسسات المانحة. وهي ضغوطات تمنعها من أن تستعيد دورها الاجتماعي، ناهيك من دعمهم للفاسدين من الذين متّنوا الكارتيلات الحاكمة وعززوا نفوذهم. وبفعل معضلة الفساد تم ضرب بنية الدول من الداخل. الدولة لا تهدمها الحرب في حين يدمرها الفساد، هذه حقيقة لا جدال فيها، ونتابع حالة الانسداد السياسي والاجتماعي التي تعانيها الدول العربية منذ استقلالها، ولا حديث في نشرات الأخبار سوى عن الأزمات على نحو متواتر. أوطان لا توفر مقومات الحياة لشعوبها، بل تسهل مسببات الموت في شكل انتحار، أو موجات هجرة غير نظامية واغراق الشباب في المخدرات والجريمة. لا يمكن الحديث عن «دولة» والوضع بمثل هذه الحال. حتى إن بعض الدول العربية لا تزال عاجزة عن توفير أدنى متطلبات الحياة اليومية، أزمات كهرباء وخبز وماء وتموين. مظاهر مؤسفة تعيشها «الدولة الوطنية» التي تخلصت من الاستعمار المباشر منذ عقود. فهل هي مستقلة حقيقة؟ أم أن أدبيات استقلالها شكلية، وتبعيتها مؤبدة، وانهزاميتها مخزية؟
كاتب تونسي