فيما بدأ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو زيارته للمنطقة كجزء من مجهود أمريكي تبشيري جديد بالسلام بين إسرائيل ودول عربية جديدة – مُعلناً لصحيفة «إسرائيل هيوم» المقربة من نتنياهو أنه يعتزم الدعوة لعقد مؤتمر سلام إقليمي في غضون أسابيع – انتهت آخر المؤتمرات الوطنية للحزب الجمهوري الأمريكي كتقليلد من تقاليد التحضيرات النهائية استعداداً لخوض الانتخابات المقبلة في الثالث من شهر تشرين ثاني/نوفمبر المقبل، وبطبيعة الحال انتهت تلك المؤتمرات البروتوكولية بتسمية الرئيس دونالد ترامب كمرشح للحزب الجمهوري في مواجهة مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن.
وفي آخر تلك المؤتمرات أعلن ترامب عن إنجازات إدارته على صعيدي الداخل والخارج، واللافت أنها كانت – وحسب ما عدده ترامب – أربعة إنجازات دبلوماسية كبرى في الخارج، حيث لم يكن لها ظاهرياً أي صلة بالداخل مطلقاً.
وهي وفق إعلان ترامب: الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والاعتراف بقانونية ضم الجولان السوري لإسرائيل، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وإعلان الشروع باتصالات دبلوماسية برعاية أمريكية تؤدي إلى تطبيع كامل للعلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل.
مشهد الحياة الديمقراطية
وإزاء محاولة إدارة ترامب استثمار هذه الاختراقات والإنجازات الدبلوماسية – كما وصفها الرئيس الأمريكي – في الداخل ولدى المواطن الأمريكي العادي إنْ على صعيد الاقتصاد بما هو عام أو حيال رفع مستوى الدخول والارتقاء بجودة الحياة وكفاءة وتوازن التشريعات والمعالجات الضريبية ورفع مستويات الخدمات الاجتماعية والصحية، وزيادة وتيرة الإنفاق الحكومي في ظل الأزمة المتفاقمة بفعل وباء كورونا؛ يبدو مشهد الحياة الديمقراطية الأمريكية عارياً ومُجرداً تماماً من أي غطاء؛ إذْ يتبين أنَّ كل هذه الدَّراما الدبلوماسية المُفعمة بالحماسة والمبذولة في الخارج خاصة إذا اتصل الأمر بأمن وبمستقبل إسرائيل غالباً ما تستهدف خدمة وإدامة نفوذ السلطة القائمة عبر ضمان دعم القطاع النخبوي الاقتصادي والأيديولوجي والمسيحي المتطرف المرتبط بالسياسات الداعمة لإسرائيل في المنطقة، التي تستهدف ضمان تفوقها على من سواها، حتى ولو كان من سواها جزءا من منظومة الهيمنة السياسية والأمنية الأمريكية. ويظهر ذلك جلياً لدى التمعن في الجدل المشبوب بالانفعال إسرائيلياً وأمريكياً حيال احتمال تزويد دولة الإمارات العربية بطائرات F35 الأمريكية كثمرة من ثمار تطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل.
وما إن انتهت زيارة بومبيو – وكما هو مُخطط سلفاً – حتى بدأ طاقمُ سلامٍ تبشيريٍّ أمريكيٍّ آخر بزيارة المنطقة على رأسه صهر الرئيس جاريد كوشنر، حيث يشارك في تدشين أولى رحلات الطيران الرسمية المعلنة بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة، ويُدشن دبلوماسياً اللقاء بين مسؤولين إسرائيليين وإماراتيين في « أبو ظبي».
الحرب العالمية الثانية
لقد بدا المجهود الدبلوماسي الدعائي والسهل وغير المُكلِف والخالي من أي مضامين والمُفَخَّم بالإنجازات اللفظية الذي بذله بومبيو كما لو أنه كان دعاية انتخابية للرئيس ترامب في عواصم المنطقة ولدى الإنجيليين الأمريكيين ولدى قطاعات من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية. وهؤلاء ليسوا في حاجة إلى هذا النوع من الدعاية؛ فأفكار ترامب قبل أفعاله التي عددها في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري كفيلة بتوفير الدعم له في هذه الأوساط، والدعاية في عواصم المنطقة لن تفيد حملة ترامب الانتخابية على صعيد الداخل الأمريكي بشيء تقريباً، لكنه – أي هذا المجهود الدبلوماسي وفي سياق آخر – يفيد إبقاء نظام الهيمنة الأمريكي عبر حشد كبير من المُفردات الدبلوماسية والأمنية المتصلة بشيطنة الأعداء المشتركين في المنطقة والتحذير من أخطارهم على مستقبل الأنظمة السياسية فيها، وبما يُتيحُ الإبقاء على الوتيرة المتسارعة لحركة دوران عجلة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الضخم كرافد مهم من روافد القطاعات الصناعية والإنتاجية الأمريكية، وذلك عبر خلق بيئة مخاطر وتحديات امنية واستراتيجية أمام دول المنطقة تُتيح مزيداً من عقود بيع السلاح الذي ينتجه المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وهذه وظيفة أساسية من وظائف الدبلوماسية الأمريكية في بيئتي الحرب والتبشير بالسلام على حد سواء، وقد ارتبطت هذه الوظيفة الأساسية من وظائف الدبلوماسية الأمريكية الناعمة منها أو الخشنة باجتراح عناوين زائفة كعنوان المجال الحيوي للأمن القومي الأمريكي الذي يتسع ويمتد ليَلُفُّ العوالم ابتداءً من عمق أوروبا مُحيطاً بها من أربعة أقطارِها وعبر آسيا وليس انتهاءً بخط العرض 38 الذي يشطر الكوريتين وصولاً إلى بحر الصين العظيم والأرخبيل الياباني.
كانت البداية لاستخدامِ مثل هذا العنوان ثثمثل في مواجهة عدوى الشيوعيَّة في أوروبا مع إطلاق مشورع ( مارشال ) عام 1947م؛ ففي خطابٍ للجنرال ( جورج مارشال ) – رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية؛ ووزير خارجيتها بعد انتهاء الحرب – (أمامَ جامعة هارفرد) بتاريخ 5 يونيو / حزيران من عام 1947م؛ أعلِنَ عن مشروعٍ إقتصاديٍ هائل لإعادة إعمارأوروبا بمساهمةٍ من جانب الولايات المتحدة بحوالي 13 مليار دولار في دعمِ صندوق ما سُمِّيَ وقتها (بمنظمة التعاون والإقتصاد الأوروبي).
لقد أدَّت الحرب العالمية الثانية إلى دمارٍ كبير في بنية الاقتصاد الأوروبي؛ وإلى تعثُّر عجلة الصناعة؛ وإلى مقدارٍ عميق من الكساد الاقتصادي؛ مِمَّا عمَّق من انتشار حالة من البؤس والفقر في عمومِ أوروبا وخصوصاً في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا؛ ومِمَّا وفَّرَ فرصةً أمام الدِّعاية الأمريكيَّة لاستخدامِ واستثمار فزَّاعة التحذير من خطر انتشار الشيوعيَّة في تلك البدان على وجه التحديد؛ ومِمَّا وفَّرَ فرصةً ذهبيَّة وتاريخيَّة وامتيازيَّة من الدرجة الأولى، أمام الإقتصاد الأمريكي للإستثمارِ في أوروبا تحت عنوان إعادة الإعمار؛ وإعادة تنشيط عجلة الصناعة الأوروبيَّة إعتماداً على الخبرات الأمريكيَّة في المجالات الفنيَّة والإداريَّة؛ واعتماداً على الدُّولار كعملةٍ رئيسيَّةٍ للتداول وكملاذٍ آمنٍ للإدِّخارِ وللإستثمار، وبجعله أساساً ومعياراً لقوَّة تدفُّقِ ودوران حركة رأس المال في أوروبا والعالم؛ وبذلك تحصَّلت الولايات المتحدة على سيادة الدُّولار كعملةٍ للإستثمارِ والتداول بلا منازع تقريباً؛ وتحصَّلت بفعلِ ذلك على تنصيب- إمبراطوريَّة الدُّولار على العالم- كقوَّة إمبراطوريَّة ناعمة تدعمها قوى الإمبراطوريَّة الأمريكيَّة الإستراتيجيَّة الخَشِنة؛ ومِمَّا أتاح لها فيما بعد أنْ تُلْحِقَ الإقتصاد الأوروبي باقتصادها لعقودٍ طويلةٍ من الزَّمن.
لقد استثمرت أمريكا في مشروع مارشال حوالي 13 مليار دولار لكنَّ عوائد ذلك الإستثمار تجاوزت المئة مليار في بضعِ سنواتٍ بعد تاريخ عام 1947م وحتَّى منتصف الخمسينيات؛ ولقد ساعدها ذلك المشروع على التَّخلُّص من آثار مرحلة -الكساد الإقتصادي الكبير- الذي ابتدأ في الولايات المتحدة في عام 1929م وامتد حتى عام 1935م مخلَّفاً آثاراً كبيرة وعميقة على حيوية الإقتصاد الأمريكي وعلى مستوى نموّه في أربعينيَّات القرن العشرين.
هكذا إذنْ تمَّت – أمْرِكة أوروبا- وكانت الولايات المتحدة في طريقها – من خلال أمركة أوروبا- إلى الهيمنة والإستحواذ على نصف ثروات العالم. منذ انطلاق مشروع مارشال مروراً بوثيقة تأسيس حلف النَّاتو فاتفاقيَّة ماستريخت؛ وصولاً إلى عصرِ العولمة مطلع تسعينيات القرن العشرين.
كتبَ هنري كيسنغر عام 2002م في الفصل الثاني من كتابه هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجيَّة؟ وتحت عنوان: أمريكا وأوروبا تحوُّل العلاقات الأطلسيَّة: ( إنَّ الإنحراف في العلاقات الأطلسيَّة لا تسببه سياسات معيَّنة لقادةٍ فرديين؛ لكن هذه السياسات تعكسُ أربعةَ تغيُّراتٍ أساسيَّة في العلاقة التقليديَّة: 1- تفكك الإتحاد السوفييتي. 2- توحيد ألمانيا. 3- الإتِّجاه المتنامي للتعامل مع السِّياسة الخارجيَّة، كأداةٍ للسِّياسة المحلِّيَّة. 4- تَبَرْعُم الهويَّة الأوروبيَّة. فمنذ دخول أمريكا الحرب العالميَّة الأولى عام 1917م، وسياستها ترتكزُ على الإعترافِ أنَّهُ من مصلحتها الجيوسياسيَّة الحؤولُ دون سيطرة قوَّة معادية محلية على أوروبا. وللدفاعِ عن تلك المصلحة؛ تخلَّت الولايات المتحدة عن عزلتها التقليديَّة بعد الحرب العالمية الثانية؛ ودخلت في صراعٍ طويل مع الإتحاد السوفييتي. حيَّتْ أوروبا أمريكا في المناسبتينِ؛ حتَّى عندما أزعجت الحماسة التبشيريَّة- والميل نحو معادلة السياسة الخارجيَّة بالتَّحَسُّن الأخلاقي- القادةَ الَّذين علَّمَهُم التاريخ الوطني فضيلة الطموحات الأقل محدودية. وقد أوجد الشعور أنَّ التهديد السوفييتي لا يمكنُ موجهته إلَّا بجهدٍ مشترك لدول الأطلسي وبتسخير المصالح القوميَّة لصالح الفائدة المشتركة؛ تركيبة التحالف الموجودة – التي ربما كانت الأعظم تأثيراً في التَّاريخ).
حقَّاً، إنَّ التمعُّن في سياق التاريخ الطويل المعقد والمتداخل للسياسات الخارجية مع السياسات الداخلية الأمريكية؛ ربما يقدم إجابة يقينية عن السؤال: هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية، أم أنَّ سياساتَها الخارجية ليست سوى أحد أهم المظاهر المُعبرة عن سياسات ومصالح سلطتها الداخلية ومراكز نفوذها الفعلية والمعيارية العابرة للقارات، وقبل ذلك العابرة لكل طبقات وأطياف المجتمع الأمريكي المتنوع رغماً عنه؟!.
كاتب فلسطيني