السياسي الأردني الدكتور جواد العناني: مطلوب «مطبخ سياسي» في عمان وآخر في رام الله

حاوره: بسام البدارين
حجم الخط
0

في أحد الاجتماعات التشاورية بالمستوى السيادي مباشرة بعد أحداث 7 أكتوبر تقدم السياسي الخبير الدكتور جواد العناني «خطوة إلى الأمام» في المصارحة والمكاشفة والأهم جرأة الرصد والملاحظة.
كان العناني للتو يتعرض لوابل من «الأسئلة» من مراكز الدراسات العميقة دوليا حول موقف بلاده الرسمي وبصفته من أكثر المشتبكين سياسيا مع الحدث الإقليمي والدولي، لا بل طلبت جهات بحث دولية من العناني كتابة أوراق عمل.
سجلت المفارقة التالية في جلسة حوار: العناني رئيس سابق للديوان الملكي ومستشار متقدم للمفاوضات ونائب سابق لرئيس الوزراء وتقلد مناصب وزارية عدة مرات لكن «شعرت بالحاجة لأن أفهم ما هو موقفنا الرسمي حقا في تشابكات القضية الفلسطينية قبل التفاعل مع مراكز بحث دولية».
الإشارة هنا من جهة العناني في منتهى اللباقة والكياسة دبلوماسيا لأن شخصية بخبرته من طبقة رجال الدولة لم يكن باستطاعتها فهم محتويات تفاصيل الموقف الرسمي بحكم اعتبارات يعلمها الجميع الآن، الأمر الذي يعكس أزمة غياب التصور ونقص الحوار والمعلومات حتى عند الطبقة العليا من خبراء السياسيين.
وهي مسألة سرعان ما توافق معها العناني وسياسيون كبار متعددون يشعرون بالحاجة أحيانا لتزويدهم بالمعطيات حتى تتقلص دوائر الاجتهاد الشخصي بخصوص شخصيات محسوبة تماما على مطبخ الدولة الأردنية أو سبق لها ان تقلدت مواقع متقدمة أو «لا تحب» أن تقول في مراكز بحث دولية وعميقة أي فكرة «خارج السياق».
كانت تلك لفتة ذكية من الدكتور العناني للتأشير على ظاهرة يتحدث عنها سياسيون كبار بين الحين والآخر.
وعندما استضافته «القدس العربي» في نقاش مفصل وعميق حول بعض المفاصل لم يعترض العناني صاحب الخبرة الواسعة والمقالات العميقة على الاستنتاج الذي يقوله بين الحين والآخر سياسيون كثر بعنوان: «لا أحد يتحدث معنا» والمقصود بلا أحد، كبار المسؤولين التنفيذيين الذين يقتضي واجبهم الإداري والوظيفي التواصل مع كبار رجال الدولة ووضعهم بصورة مستجدات المعلومات.
يقدر العناني وهو أيضا من بناة القطاع العام الأردني وأحد أبرز الخبراء الاقتصاديين هنا بان التلاقي والتحاور والتفاعل مع المسؤولين والمستشارين وأصحاب الاختصاص ضروري فعلا خصوصا عند ولادة أزمات صعبة لحالة تظهر حقائق وقائع الموقف الرسمي الأردني.
وضخ المعلومات بين الحين والآخر مفيد، لأن السياسي بصورة عامة يتقاعد فقط من الوظيفة لكنه مرشح للاشتباك مع أوراق عمل ونقاشات عصف ذهني في الداخل والخارج وواجبه الدفاع عن خيارات الدولة وشرحها وتفصيلها حتى أثناء تواصله مع المجتمع الأردني، ما يتطلب بين الحين والآخر تفعيلا للنقاش وتلاقح الأفكار والتفاصيل كما يقول العناني حتى تصبح الرواية أو السردية الوطنية محبوكة أكثر.
○ هل يعني ذلك أنك تتصور بأن نظام التواصل مع النخب يعاني من إشكال؟
• نعم نحتاج لبذل جهد أكبر وهو يمثل بالمناسبة واجبنا جميعا في الحبكة والحياكة والبقاء على نفس الخطوط ما دامت «الثوابت الأردنية» متجذرة والرؤية المرجعية واضحة خصوصا تجاه القضايا والملفات الأساسية.
وأقولها بصراحة نحتاج إلى تقنيات بمستويات أرفع من التداول والتحاور والتفاعل بين الحين والآخر، لأن الرواية النظامية الرسمية العميقة ينبغي أن تظهر صلبة على لسان من يعلم مسبقا أن رأيه أو موقفه قد يحسب على الدولة ولضمان تجنب المفاجآت والمطبات هنا التغذية الراجعة بمعنى التزود بالمعطيات مهمة منتجة ومفيدة، فنحن بصورة عامة على قلب رجل واحد أو ينبغي لنا أن نكون.
○ ما الذي ينقص في هذا السياق برأيك خصوصا الآن؟
• الثوابت الأردنية الأساسية واضحة. وإذا كنا نتحدث عن تقلبات الإقليم وتداعيات العدوان والجريمة الإسرائيلية وهذا التراكم لا بل الصدام بالمعنى العسكري في الممرات المائية في منطقتنا لا بد من ملء الفراغات وإكمال الأسطر والأحرف بما يضمن تشخيصا وطنيا يصب في النهاية بصالح الدولة والشعب في الأردن.
○ في مسألة التطورات الإقليمية وفي الجزء الأردني ثم الفلسطيني من التداعيات ما هو المنقوص حتى الآن؟
• ما زلت أعتقد بأن المرجعيات والأطر القيادية لديها تصورات وسيناريوهات ومعطيات ومعلومات، لا بل قدرات على الاشتباك والتفاعل والاحتواء وحماية مصالح البلاد الأساسية والعليا.
وتقديري شخصيا أن الخطوة اللاحقة قد تكون وجود مطبخ سياسي يتولى قراءة ومتابعة وتشخيص التحديات الآن، على أن يوجد في الجانب الفلسطيني مطبخ مماثل من الصنف العابر للمؤسسات التنفيذية.
بهذا المعنى وجود مطبخ في عمان وآخر في رام الله يمكنهما التفاعل والتفاهم قد تكون المحطة الأساسية التي تجيب على سؤالكم.

الهندي والإسرائيلي

ينفرد الدكتور العناني بخبرته العميقة في أنه قد يكون السياسي والباحث العربي الوحيد الذي يرصد ويلاحظ نموا هرمونيا بين رأس المال اليهودي المهتم بصناعة السياسة ودعم الاحتلال وشريكه الجذري في الهند.
وقد كان هذا الموضوع مؤخرا محور نقاش حيوي عندما استدعي العناني للمشاركة في ندوة مغلقة مع رموز في الحزب الحاكم الهندي وآخرين على المستوى الدبلوماسي.
وجه العناني وقتها أسئلة محددة لمناظريه من الهنود بعنوان إستراتيجيتهم في دعم الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وخلفيات مجازفتهم بعلاقة قوية مع العالم على حساب الدول العربية.
الأرجح أن من سألهم العناني لم يقدموا إجابات شافية.
لكن الأهم أن التحالف الهندي الإسرائيلي يافطاته واضحة اليوم ومؤسسة على تجاوز حتى حسابات الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة للجانبين، وثمة ما يريب بالتأكيد في هذا التحالف الذي يسعى لدور ناشط في التجارة والسياسة وأيضا في السيطرة على الممرات البحرية.
○ ما هي المؤشرات التي تجعلك تعتقد بمخاطر مثل هذا التحالف؟
• لابد من مراقبة الخرطة التي تذهب إليها التحالفات بين إسرائيل ورأس المال الهندي ويتوقع أن يؤدي ذلك التحالف وهو يؤدي الآن جزئيا إلى تفريخ طبقة متشددة من كبار الموظفين والمستشارين وأصحاب النفوذ من الهنود والغربيين والأمريكيين والكنديين وغيرهم.
ومثل هؤلاء يزحفون إلى مواقع أساسية ونفوذها كبير على رافعة التحالف وأغلب التقدير أن ذلك قد يؤذي قيمة الدولار الأمريكي مستقبلا في إطار لعبة الاستحواذ والزحف نحو التجارة ومواقع النفوذ الاقتصادي والشركات الكبرى خلافا طبعا للمناصب السياسية.
○ ما هي المخاطر المتوقعة باختصار وبأي اتجاه؟
• ستدفع جبهات متعددة ودول كبرى ثمن نمو هذا التحالف بين رأس المال الهندي ونظيره الإسرائيلي خصوصا إذا ما استرسلت الاستحكامات وسياسات الاستحواذ على شركات كبيرة ومناصب سياسية.
والنظام الرسمي العربي للأسف لا ينتبه لما يحصل هنا أو سيحصل لاحقا، واقتصاديات منظومة دول الخليج تحديدا قد يهددها أو يتحكم بها هذا النفوذ الثنائي المريب الذي تغفل عنه المصالح العربية.
○ نشرت عدة مقالات تنتقد فيها السياسات الخارجية للهند خصوصا في ملفي القضية الفلسطينية وتضخيم العداء والكراهية ضد المسلمين، هل نستوضح أكثر؟

نفطنا لم يعد مهما

نعم نشرت عدة مقالات والحقيقة لم أقف عند هذه الحدود، بل تحدثت مع مفكرين وخبراء هنود وجها لوجه في ندوات نخبوية مغلقة عن تلك التغيرات في الهند، وانتقدتُ سياستها الداخلية والخارجية تجاه المسلمين، وتحول سياستها من دولة ناقدة لإسرائيل إلى دولة مؤيدة لها، حتى ولو كانت الحكومة فيها برئاسة بنيامين نتنياهو وما يفعله في قتل فرص السلام، والميل نحو التطرف المتشدد والاستهانة بالشعب العربي عموماً والفلسطيني خصوصا. لقد تبدلت الهند في هذا الموضوع وسلوكها السياسي على الأقل في دعم إسرائيل بلا حدود تبدلا ملموسا بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين في «الثقافة التي كنا نعرفها ونألفها».
○ على أي أساس تحدثت في مقالك الذي طال الملف الهندي عن مفارقة المصالح الاقتصادية؟
• من المدهش أن التحول في الموقف الهندي الداعم لإسرائيل رغم عدوانها رصد وتلمسناه في توقيت كانت ترتفع فيه معدلات التبادل الاقتصادي والعلاقات الاقتصادية بين الهند والعالم العربي إلى مستويات عالية.
للعلم فقط قفز حجم التبادل التجاري بين الدول العربية (وخاصة منطقة الخليج وبشكل أخص مع المملكة العربية السعودية) بشكل ملحوظ مؤخرا.
وفي عام 2013 بلغ التبادل 120 مليار دولار، ليقفز في عام 2023 إلى 240 مليار دولار. ولكي تزداد العمالة الهندية في دول الخليج من حوالي 6.5 ملايين عام 2013 لتبلغ أكثر من 10 ملايين عام 2023.
وهذا يعني أن جوهر الموقف من المجازفة بالمصالح الاقتصادية مع العرب مفارقة تستحق التأمل وأن كان الجانب العربي مسؤولا بدوره عن الترفع بخصوص الضغط في المعادلة السياسية.
ما قلناه في مقال خاص ونعيده لكم هو الاستثمار وانتقال رؤوس الأموال وارتفاع معدلات التبادل الثقافي والفني والتكنولوجي مع الهند أضعاف ما كانت عليه قبل عقد من الزمان.
عليه من الطبيعي والمنطقي أن يؤدي الارتفاع في معدلات التبادل الاقتصادي بكل أبعاده إلى زيادة التعاون والتقارب السياسي؛ ولكن هذا لم يحدث في العقد الأخير حين غيرت الهند من نموذجها المتبع في السياسة الخارجية من السعي لترسيخ مبادئ العدالة وحقوق الإنسان والدفاع عن مصالح الدول النامية إلى نموذج لا يبحث عن التعامل مع العالم كمجموع، وخاصة دول العالم الثالث، بل إلى دولة تبحث عن ترسيخ علاقاتها الثنائية حصرا، الأمر الذي انتهى بالإضرار بالمواقف والمصالح العربية خصوصا في ملف الصراع مع إسرائيل.
خلاصة العناني التي ذيل بها مقاله بعد زيارته التفاعلية الأخيرة للهند كانت كالتالي: العالم لم يعد يخشى من نفطنا، فنحن الأحوج لبيعه، ولم يعد يخشى صولتنا، لأننا متفرقون، ولم يعد يأبه برضانا أو بغضبنا. وزيارتي للهند أكدت هذه المعاني. ورغم الألم الذي اعتصرني، إلا أنني وجدت أن الهند سبقتنا بمراحل ولم يعد أحد قادراً على إكراهها على شيء لا تريده.

خيار الحرب مع إسرائيل «وارد»

في الزاوية الأردنية من تطورات وتدحرجات الملف الفلسطيني للدكتور العناني مقالات ومقولات «جريئة جدا» في الفهم والتحليل والانطباع، بدأت مع مقال شهير له في المرحلة التي شهدت نهايات مرحلة الرئيس دونالد ترامب حين أطلق الملك عبدالله الثاني «كلا الثلاثية الشهيرة».
وقتها أعلن الملك «كلا للوطن البديل…كلا للترانسفير…كلا للتخلي عن القدس والأقصى».
آنذاك قرأ العناني قبل غيره في تلك الـ«كلا» إيحاء وتلميح مباشر باستعداد بلاده للذهاب حتى لخيار «الصدام العسكري» مع الإسرائيليين إذا تطلب الحفاظ على الثوابت الأردنية العليا في القضية الفلسطينية.
ما يريده العناني هنا أن لا ينسى من يفكك الشيفرة أن الأردن بلد مؤسسات صلبة ولديه خطوط حمراء وقوات مسلحة وخبرة موثقة في التعاطي مع «الأطماع والطموحات» وفي إدارة الصراع برمته خلافا لأن الأردن بلد في منصة متقدمة في الخريطة الدولية.
○ حتى بعد العدوان الأخير اعتبر الأردن «التهجير إعلان حرب» ما الذي تقرأه في مسألة «الاشتباك السيادي» هنا؟
• باختصار وبعيدا عن الاستنتاجات المتسرعة أدعوكم لإعادة قراءة ليس خطاب الثوابت الأردني فقط، بل بعض دلالات المحطات التاريخية في الاشتباك العسكري بين الأردن والعدو الإسرائيلي فهي تقول العديد من الأشياء المهمة.
ما تقوله مؤشرات التاريخ أولا ان العقيدة العسكرية الأردنية لا تقبل المساس بالثوابت الأساسية التي ترد على لسان القيادة.
والإشارة ممكنة لمحطات محددة أبرزها معركة الجيش العربي الأردني في الدفاع عن القدس وحجم الشهداء الذين سقطوا على أسوار وتراب القدس للدفاع عنها إضافة إلى ما حصل من حسم عسكري يعلمه الجميع في معركة الكرامة.
○ في مسألة التهجير وأحداث غزة، هل تواصلت المؤشرات تلك؟
• طبعا الموقف هنا واضح في الخطاب الأردني سواء ذلك الذي عبر عنه جلالة الملك شخصيا في عدة منابر دولية أو الذي يتبناه في الغرف الدبلوماسية وزير الخارجية.
وما يمكنني قوله كمحلل إن «خيار الاشتباك العسكري» وارد في العقل الأردني في إطار أي مشروع يحاول «الاعتداء على الثوابت والمصالح الأردنية» وعلى الإسرائيليين عدم تجاهل ذلك فالأردن بلد «سيدافع عن مصالحه» بكل ثبات وقدرة أيضا.
وليس سرا ان التعبئة الوطنية العامة متفقة أو متوافقة على ان الترانسفير بمعنى الترحيل القسري باتجاه الأردن أبرز الخطوط الحمراء الآن ومصنفة باعتبارها «إعلان حرب».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية