تتعدد وجوه السيرة وأقنعتها بتنوع الذين يكتبونها وتباين تجاربهم، ولكن المتفق عليه هو أن السيرة سرد يحكي للحاضر والآتي ذكريات ما مرَّ بصاحب السيرة من تجارب وخبرات ومشاهدات ومواقف بدءاً من الطفولة ومروراً بالصبا والشباب بكل ما فيهما من اكتشاف واصطدام واندفاع ووصولاً إلى الحاضر الذي عادة ما تكون فيه الشخصية قد بلغت عمراً ليس بالقصير اكتملت فيه خبراتها ونضجت تجاربها وصار لها عطاؤها الذي فيه كثير من الأسرار التي تستوجب المكاشفات والتي لا تخلو من المحن والالآم.
ولكن من الذي يحق له أن يَكتب أو تُكتب سيرته لتندرج من ثم في خانة الأدب الشخصي؟ وهل هناك مقتضيات لنجاح السيرة الأدبية أم أن كتابتها لا تقتضي الكفاءة؟
إن السيرة الأدبية نوع سردي أساسه شخصاني ومن ثم يكون الصدق هو المحتم الأساس في نجاح تأثيرها في قارئها فهذا ما يفضي إلى كشف حقائقها والركون إليها. وأعتقد أن هذا المحتم هو وراء ما صارت تلقاه السيرة من رواج على الصعيدين: ا) الإنتاج الكتابي بدءاً من رؤساء الدول وانتهاء بالسياسيين والرياضيين والفنانين، 2) الاستهلاك القرائي فلا تكاد تجد دار نشر لم تنشر سيراً، بل إن المترجمين صاروا يتبارون في ترجمة الأعمال السيرية الأجنبية.
وعلى الرغم من محاولة فيليب لوجون عد السيرة جنساً، فإن ذلك لم يتحقق له، والسبب عدم قدرة السيرة على إرساء حدودها التصنيفية بمعيارية تضع لكتابتها مواضعات يسير على وفقها الكاتب، هذا فضلا عن أن الرواية لها من الرسوخ ما يجعلها عابرة أجناسياً على أنواع السرد الأخرى ومنها السيرة بنوعيها الذاتي والغيري.
وما دامت السيرة نوعاً غدا ممكنا لأي أحد أن يدوّنها شريطة أن يمتلك خزيناً ثرياً من التجارب الشخصية وأن يكون ذا ذاكرة طيعة على الانثيال فلا تلتقط ما علق في تجاويفها من أحداث فقط، بل تستفرغ كل محتويات تلك التجاويف فهي كالصندوق الذي كلما أزيل الغطاء عنه انكشف ما بداخله أكثر. وهذا هو الفارق بين السيرة بوصفها انثيالات والمذكرات بوصفها التقاطات.
فالسيرة هي مجموع الذكريات التي منها نصنع شريطاً متحركاً ومرئياً يختزل عمر الشخصية كلها. أما اتخاذ السيرة ذريعة لإعطاء الشخصية قيمة وأهمية كما يفعل بعض السياسيين وهم يحملِّون ذواتهم خبرات وتجارب غير حقيقة، فليست محصلته سوى الفشل لانعدام الصدق والمكاشفة اللذين يعطيان للشخصية شفافية ويجعلانها ذات تأثير في القارئ لأنهما بغيته.
وأكثر السير تأثيراً في القراء هي التي تكشف عن تجارب غزيرة وتقدم دروساً عميقة، ومن ذلك السير التي يكتبها الشعراء. ومعروف أن الشاعر كائن طائر لا يحط على أرض الواقع إلا بجناحين مجازيين ومن ثم لا نعرفه كلياً من خلال شعره ولا من صيت قصائده لكننا نعرفه كلياً حين يكتب سيرته وعندها تكون أناه سارداً غير أناه شاعراً.
وقد يخلط بعضهم بين الأناتين مستعملا مسميات مثل (القصيدة السيرية) و(السيرة الشعرية) واصفاً الأخيرة بأنها (سرد نثري)! فيه الشاعر (إلا يخرج إلى تناول جوانب أخرى غير شعرية من سيرته إلا على النحو الذي له صلة ما تدعم قضيته الشعرية في السيرة)، (كتاب «السيرة الذاتية الشعرية»، محمد صابر عبيد). وهذا نسيان لأهم مقوم من مقومات كتابة السيرة وهو الانثيال الذاكراتي الذي تتطلبه الأنا الساردة كشفاً وبوحاً حتى أن الشاعر كلما دعته أناه الشعرية إلى الارتقاء بلغته، سحبته الأنا السردية إلى الواقع وأنزلته من عليائه؛ هذا فضلا عن حقيقة أن السرد فعل تخييلي والسيرة فعل واقعي.
وإذا كان أدونيس قد كتب قصيدة «هذا هو اسمي» وعدّها سيرة شعرية، وكتب السياب مقدمات لقصائده أو قصائد غيره، فليس للنقد الحق في عدها وثائق أوتوبوغرافية يعول عليها في معرفة تجربة الشاعر الشخصية كما فعل حسين عبد اللطيف في كتيبه «مقدمات السياب»، 2014. إذ لا وجود لقصيدة أو مقدمة قصيدة توصف بأنها سيرية كما لا سيرة توصف بأنها شعرية إلا من باب التجوز أو المجاز، لأنها نقديا تظل مجرد توصيفات ليست لها حدود أجناسية ولهذا يعد هذا النمط من كتابة السيرة نوعا يندرج في جنس القصيدة أيا كانت عمودية أم تفعيلية أم قصيدة نثر.
ومن الطبيعي أن يقود هذا الخطل الأجناسي في عد الشعر سيرة ووصف السيرة بأنها شعرية إلى خطل الناقد في تحليل القصائد والتأشير على مكامن القوة في تجارب الشعراء، فيتساوى عنده الشاعر والشويعر حتى لا فرق بين كتاب يضع عليه اسم هذا، وآخر يضع عليه اسم ذاك، بل إن نقد الشعر عنده يصلح على كل اسم ويصدق على كل قصيدة وبلا أدنى فارق البتة.
ولعل هذه اللادقة في النقد هي واحدة من أسباب الأزمة التي يعاني منها نقدنا العربي، حتى صار الاعتقاد أن هناك موتا للشعر وأزمة لدى الشعراء، بينما الأزمة هي أزمة نقاد. فالشعر لا يموت، والشعراء لا يؤشرون على مواهبهم الكبيرة فتلك ليست مهمتهم إنما هي مهمة النقد الذي ينبغي أن يؤدي دوره في التأشير عليهم.
ولأن النقد الأدبي ـ المعاصر وليس الراهن ـ كان قد قام بدوره إزاء شعراء كبار، لذا راح بعض هؤلاء الكبار يدونون سيرهم مدركين أن لتجاربهم غنى وعمقا، فكتب نزار قباني «قصتي مع الشعر»، 1970، و«من أوراقي المجهولة سيرة ذاتية ثانية»، 2000، وكتب صلاح عبد الصبور «حكايتي مع الشعر»، 1969، وكتب عبد الوهاب البياتي «ينابيع الشمس» 1999، وغيرهم كثير.
ولو وقفنا عند سيرة البياتي الذاتية لعرفنا كيف وظف أناه السردية مستبعدا أناه الشعرية ليكون هو السارد يحكي قصة حياته بكل ما فيها من تجارب شخصية، قائلا: «ما كان لي أن أعود إلى كتابة تجربتي الحياتية ـ حيث سيكون الشعر قسيما مع سيرة الذات ـ لولا هاجس كان يراودني كلما اخذ ذهني في الاستغراق وكلما استرجعت الماضي باحثا عن نفسي»، ص5.
وما وصف البياتي لدور الملائكة في التحديث بأنه (محاولة)، ثم قصر عطائها الشعري على ما نشرته في الخمسينات وتمنيه الذي جاء من باب كلمة حق مرادها باطل، سوى دليل على ما يترتب على الانثيال الذاكراتي من كشف وإعلان، على كاتب السيرة أن يكون شجاعا في تحمل تبعاتهما.
وبتلك الانثيالات الذاكراتية وهذه المواقف النقدية، تختفي في كتابة السيرة الذاتية الأنا الشعرية وتبزغ الأنا الساردة ومن ثم لا (سيرة شعرية) بل هي (سيرة ذاتية) فيها الشاعر إنسان يتحدث عن شخصه بنفسه هذا أولا، وثانيا أن السيرة تسمح للنقد أن يفيد منها في استجلاء مظاهر تتعلق بالشعر والشاعرية كما أنها فرصة منها يأخذ الشعراء الدروس في كيفية بلوغ قمة الشعر أو الموجهات التي بإمكانها أن تقودهم إلى تلك القمة.
وهو أمر ينطبق على مختلف الشعراء، ومن يقرأ سيرة الشاعر الروسي يفجيني يفتوشنكو مثلا فسيجد الأمر نفسه من الانثيال الذاكراتي للأنا والمواقف الناقدة للشعر. والقصيدة عنده ليست سيرة ذاتية لانها ستكون «مجردة من اللحم وكثير من النتاجات الشعرية تبدو في الظاهر سيرا ذاتية لكن ما فيها من أفكار ومشاعر هي ليست لإنسان حقيقي حي»، كتابه «»سيرة ذاتية مبكرة، ص132.
وهذه هي جمالية السيرة الذاتية وفيها تتجلى أهميتها كفن إبداعي ينطوي على غايات واقعية فيها كثير من الدروس المستقاة من تجارب هؤلاء الكبار، ولا فرق بين أن يكونوا شعراء أو غير شعراء.
*كاتبة من العراق
عندما يكون (الخطأ) في العنوان (السيرة الأدبية وخطل (خطأ) تسميتها بالشعرية) فمن نلوم هنا، الكاتب أم المراقب أم الجريدة، والأهم هو لماذا، أو ما الفائدة من ذلك، وما دليلي على ذلك؟!
الرئيس الأفغاني أشرف غني، (أكاديمي)، وتخصصه، في وضع نظريات وإنتاج كُتب في كيفية إصلاح الدول الفاشلة، كما هو حال العراقية (د نادية هناوي)،
ولكن يوم 15/8/2021، هرب من الوظيفة، مع زوجته (اللبنانية)، إلى إحدى دول (البدو) مجلس التعاون في الخليج العربي، وكلاهما من ذوي الثقافة والتعليم الغربي (الرأس مالي)، عندما كانت أفغانستان تحت الحكم الشيوعي، كلاهما كان في (لبنان)،
أي هناك فرق بين يشد الرحال إلى (لبنان)، من أجل التعليم، وبين من شد الرحال إلى أفغانستان، من أجل (الجهاد)، في نفس الفترة،
خصوصاً وأن عام 1996، كان عام تأسيس إعلام (قناة الجزيرة)، في دول (البدو) مجلس التعاون في الخليج العربي، وفي عام 2021، كان عودة (طالبان) للسلطة والحكم، كما كان في عام 1996،
فالحكمة تمثل خلاصة الواقع، بينما فلسفة الشعر، تمثل خيال الشاعر، وليس (سيرته)، ومن لا يستطيع اكتشاف الخطأ في العنوان، فعلى من تقع المسؤولية، هنا، لأن لا يوجد إنسان كامل، مثل خالق هذا الكون، يا (د نادية هناوي) أو جريدة القدس العربي، سبحان الله.??
??????
تحية للاخ س.س.عبدالله، وشكرا له على المعلومات المهمةالتي يقدمها..
اعتقد ان الكاتبة تعني ما تقول باستعمالها كلمة “خطل” والتي تعني حسب القاموس المحيط: الكلام الفاسد الكثير، او الكلام الفارغ.
بالنسبة لعبارة نادية هناوي التالية:
[وهذا نسيان لأهم مقوم من مقومات كتابة السيرة وهو الانثيال الذاكراتي الذي تتطلبه الأنا الساردة كشفاً وبوحاً حتى أن الشاعر كلما دعته أناه الشعرية إلى الارتقاء بلغته، سحبته الأنا السردية إلى الواقع وأنزلته من عليائه؛ هذا فضلا عن حقيقة أن السرد فعل تخييلي والسيرة فعل واقعي]… انتهى الاقتباس
قد تكون الكاتبة وُفقت في استعمال «الخطل» بالمعنى في توصيف السيرة الذاتية السردية بـ«الشعرية»، ولكن هناك شيئا من «الخلط» (بالتوازي مع «الخطل») بين كتابة السيرة الذاتية بقالب تقريري (إعلامي) محض وبين كتابتها بقالب روائي (فني) – كما فعل تولستوي وديكنز وجويس وغيرهم؛
ثم إن هناك، والأهمُّ من كل هذا، استعمالَ مفردة «الانثيال» وقد ورد هذا الاستعمال مراتٍ عديدةً في النص بكل ثقة معجمية من لدن الكاتبة؛ ذلك لأن معنى «الانثيال» في اللغة العربية يقتضي عادة معنى العجز عن الشروع في ذكر المعلومة ذات الأهمية الخاصة؛ فيُقال: «انثالت عليه الأفكار: أي تتابعت فلم يدر بأيها يبدأ»، و«انثالت عليه العبارات: أي تتابعت وكثُرت فلم يدر بأيها ينطق»، إلى آخره !!!؟؟