السيرة الذاتية العربية

منذ فترة أفكر في كتابة سيرة ذاتية طويلة، عبارة عن مذكرات شخصية لما مررت به من أحداث، وما جابه كتابتي منذ بداياتها وحتى الآن، من تجاهل وحفاوة، أو من ود وعدم ود، إضافة إلى سيرة الولادة في تلك القرية في شمال السودان، وسيرة النشأة في الساحل. والمدن التي زرتها، وأحببتها بشدة، والتي زرتها ولم أنو زيارتها مرة أخرى.
وكنت كتبت كتباً عدة يمكن إخضاعها لمفهوم السيرة، لكنها كانت مختصة بجوانب بسيطة من حياتي، مثل كتاب «مرايا ساحلية» الذي أطلقت عليه سيرة مبكرة ورصدت فيه نظرة طفل صغير لمدينة بورتسودان أواخر الستينيات، وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، أيام أن كانت من المدن النظيفة المرموقة، وكانت ثمة شخصيات غريبة وشديدة الإيحاء أو الغموض، توجد في تلك الفترة، وتتبعثر في ليل المدينة ونهارها، مثل استيفن المشلول، الذي يرابط على مقعده المتحرك أمام مدرسة كمبوني، وعوض ديجانقو، عاشق أفلام رعاة البقر، بطاقيته العريضة، ومسدسه الخشبي، والدبل صاحب أفضل فول يمكن تذوقه في المدينة، وكثيرين غيرهم.
وكان يمكن أن أصنع من «مرايا ساحلية» عالما بانوراميا ضخما، أضيف إليه شيئا من الخيال، لكن لا بد أن عدم الخبرة ساعة كتابة ذلك النص، كان له دور كبير في أنني اكتفيت بخامات كتابية، كانت قابلة لتفكيك قسوتها واستخدامها بطريقة أفضل.
أيضا كتبت عن عيادتي في حي النور الشعبي، وتلك كتابة قصد منها أن تؤرخ للعيادة، والذين كانوا من حولها فقط، وبعض مواقف المستشفى الساحلي الذي كنت أعمل فيه نهارا، من دون غوص في سيرة أعمق، أعني انتقاء شذرات في السيرة فقط، وأذكر منذ عدة أيام أنني التقيت برجل من جيلنا، من أبناء بورتسودان، في أحد الأماكن العامة، قال إنه كان يسكن حي النور الشعبي، وإنه ما يزال يذكر تلك العيادة، وممرضها ومرضاها، والسيارة اللكورولا البيضاء التي كنت أستخدمها، وأيضا أقسم أنه يعرف المحتال الذي ذكرته في السيرة، وأن ذلك الرجل اختفى من حي النور تماما، وأن الآخرين الذين ذكرتهم فيهم من مات ومن ما يزال يكافح حتى بعد أن هرم.

هل الآباء الذين وردت صفاتهم في منشورات الأبناء بوصفهم ملائكة، هم فعلا ملائكة؟ لم يقهروا ولدا، ولم يسرقوا حلما من ولد؟، ولم يزوجوا فتاة من دون رغبتها؟ ولم يحرموا أخرى من التعليم؟

المهم في الأمر، أنني لم أكتب سيرة ذاتية كبرى حتى الآن، وفي ذهني دائما تبرق تلك السير الضخمة والعملاقة، لكتاب أنجزوا بالفعل سيراً تقرأ بسلاسة ووعي وفيها دروس مستفادة، سواء على مستوى الإبداع أو اللغة أو الحياة نفسها، وفي كتاب مثل «تقشير البصلة» للكاتب الألماني غونتر غراس، نعثر على تلك السيرة الجيدة للحرب والمجتمع، والكتابة أيضا، وفي ألوان أخرى للكاتب الجميل أورهان باموق، نجد ربطا عظيما بين حياة إسطنبول التي يعيشها كإنسان، وحياة الكتابة في المدينة نفسها، وباموق يستوحى كتابته كما هو معروف من مدينته الأثيرة، يحفظ شوارعها وأزقتها تماما، ويحفظ تراثها وحاضرها ووجوه مواطنيها الأثرياء والفقراء، على حد سواء، وأيضا وجوه فتياتها الجميلات الملهمات، وحتى في رواياته، لا بد أن تعثر على خطوات حياته، أنفاس سجائره في مقاهي شارع الاستقلال، ورائحة حبر كتابته في تلك البيوت الصغيرة التي يستأجرها بعيدا عن بيته، من أجل أن يختلي بشخصياته، يحاورها وتحاوره، وينجز فيها نصا جديدا. «ألوان أخرى» أيضا احتوى على مقالات عن آخرين، هم أيضا كتاب، ربما رافقوا باموق في رحلة الكتابة، أو تأثر هو بهم، ويكتب عنهم بود، بوصفهم جزءا من تكوينه أو جزءا من تاريخه الإبداعي.
أعود لرغبتي في كتابة السيرة، وأتساءل بيني وبين نفسي: هل ستكون سيرة حقيقية بخيرها وشرها، بصفائها وشوائبها؟
وقد طرحت سؤالا شبيها بهذا على الأصدقاء بمناسبة عيد الأب، منذ عدة أيام؟
هل الآباء الذين وردت صفاتهم في منشورات الأبناء بوصفهم ملائكة، هم فعلا ملائكة؟ لم يقهروا ولدا، ولم يسرقوا حلما من ولد؟، ولم يزوجوا فتاة من دون رغبتها؟ ولم يحرموا أخرى من التعليم؟ والتساؤل يمكن أن يشمل الأمهات أيضا، والأجداد والجدات، والجيران الذين تجد بينهم صائدي عورات، ومتحرشين بالأطفال، ومدعي تقوى، إلى غير ذلك؟ قطعا لا، إنه مأزق السيرة الذاتية العربية، التي تنتقي الفضائل التي ربما تكون قليلة جدا، في الناس الذين عرفهم الكاتب، تستخدمها كحبر للكتابة، تاركة الرزائل في حكم المنسية، سيذكر الآباء الطيبون، والأمهات المتشحات بالحنان والعطف، والجدات الرائعات، حتى حين يضربن بالعصا حفيدا أقلق نومهن في الظهر، سيذكر الجيران السباقون بمواعينهم وصواني الغداء والعشاء في كل مرة، والحاملين لنعوش الميتين، والذين يفتحون بيوتهم لتلقي العزاء في جار ميت، أما أولئك المتحرشون بالأطفال، والذين يدخنون سجائر البانجو، ويعترضون طريق الجارة، إن مشت في الحي، وأيضا يتسلقون البيوت على أمل أن يكشفوا عورة ما، فلن يذكروا أبدا، إنها السيرة النظيفة للبيت أولا، ثم للشارع، والحي، والمدينة كلها بعد ذلك.
ولو سأل أحد مثلا من معاصري زمن الكاتب وسيرته: أين ذلك البحار العجوز الذي كان قبيح السلوك ويعرفه الحي كله، لن يجد ردا، ولو سئل الكاتب نفسه عن غزواته النزقة، وتبختره في البيوت التي تحوي كل ما هو متسخ وضار، لأنكر أن ذلك جزء من سيرته الحياتية.
لذلك نادرا ما نقرأ سيرة عربية حقيقية، وأظن سيرة محمد شكري، التي كتبت في شكل رواية، وسميت بـ»الخبز الحافي» رغم ما أحدثته من صدمة، تبدو سيرة واقعية، وقطعا مرّ بها كثيرون لكن لا أحد يكتب بهذا الحبر إلا نادرا.

كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية