السيرة الذاتية… نوعا سرديا ناقصا

حجم الخط
0

السيرة الذاتية نوع من أنواع السرد الذاتي الذي يمكننا تقسيمه إلى قسمين كبيرين: الحديث عن الذات وهو عمل يومي يقوم به الإنسان متواصلا مع غيره، مشركا إياه في ما حدث له أو سمعه. أما القسم الثاني فهو الكتابة عن الذات باعتبارها عملا إبداعيا يقوم به الكاتب لتقديم تجربته الحياتية. وقد تطور القسم الثاني بتطور أساليب الكتابة، وتحولات المجتمع، ووسائط التواصل.
مارس العرب السرد الذاتي الكتابي، فبرز من خلال كتب التراجم والفهارس، ويمكن عد الرحلة من هذا الجنس، لكون الذات الرائية هي الراوية، ومن خلال رؤيتها نرى العالم من خلال عينيها.
يتمحور السرد الذاتي حول الذات المتكلمة، ومن خلالها أيضا، لذلك نعتبر السيرة الذاتية نوعا سرديا ناقصا، عكس أنواع سردية أخرى مكتملة ونهائية. فما دام المتكلم إنسانا عاديا أو كاتبا، فسيظل بإمكانه الحديث أو الكتابة عن الذات. ولعله لهذا الاعتبار نجد أغلب الكتاب يؤجلون الكتابة عنها إلى أخريات أيامهم. ومن شرع في كتابة سيرته الذاتية في وقت مبكر، يمكنه أن يبدع سيرة ذاتية في عدة مراحل من حياته، فنجد أنفسنا أمام ثلاثية أو رباعية. وهذا ما يبدو لنا بجلاء مع عبد الغني أبو العزم. لقد أصدر الطبعة الثانية من سيرته الذاتية الأولى «الضريح» سنة 1994، والثانية «الضريح الآخر» (1996)، ومؤخرا «بعيدا عن الضريح» (2024). ومن خلال النص الأخير يتهيأ أبو العزم لكتابة جزء رابع «في الضريح». إن هناك ترابطا وثيقا بين هذه النصوص، رغم التسلسل الذي يطبعها. فقد يتكرر الحديث عن حدث بنفسه، ولكنه يقدم إلينا بصورة مختلفة، ما يعني أن الحديث عن الذات شلال لا ينتهي إلا بنضوب عين ماء الحياة.
يمكننا تقسيم الكتابة عن الذات في تجربة أبو العزم قسمين اثنين: السرد الأدبي الذي يتجلى من خلال النصين الأول والثاني. لقد قام بكتابة كل منهما في فترة من الزمن، أما النص الأخير فهو عبارة عن حوار سير ذاتي أجراه معه صحافيان خلال مرحلة كورونا، ونشر متواصلا في جريدة «المساء» المغربية. من السرد إلى الحوار، نحن أمام صيغتين هما: السرد الذي يتكلف به الراوي مقدما لنا صورة عن الشخصية المحورية. أما في العرض فالصحافي هو من يطرح الأسئلة لتجيب عنها الشخصية. في الحالة الأولى نحن أمام رغبة إبداعية «ذاتية»، تروم التعبير عن الذات، وفق قواعد نوع سردي. لكن الحالة الثانية تعبير عن حاجة «موضوعية» تفرض الحديث عن الذات، استجابة لرغبة إعلامية من خلال السؤال الذي يولد الجواب. ولا داعي للتذكير بأن «السؤالات والأجوبة» نوع من الأنواع القديمة في التراث العربي، وهي ذات أشكال ومقاصد متعددة.
في السرد الذي يتحدد من خلال صيغة الأداء العربية «أخبرنا»، تكون الذات أمام «محفز ذاتي» يدفعها للتعبير عن ذاتها من خلال الكتابة. أما في العرض الذي يتحقق من خلال صيغة «حدثنا»، فيكون الحديث عن الذات من خلال الجواب عن أسئلة معدة سلفا يحضرها «المحرر الصحافي».
في الكتابة عن الذات يتماهى السارد مع الراوي ـ الشخصية، أما في الحديث عنها فيكون المتكلم (الراوي ـ الشخصية) مقيدا بسؤال الصحافي. وكل صيغة من الصيغتين تفرض تعبيرا محددا عن الذات. في حالة السرد تكون الذات هي الموضوع، وهي تقدم نفسها بما يتلاءم مع ما تريد إيصاله إلى القارئ، فتكون الذكريات المبأرة، من وجهة نظر السارد الراوي الشخصية، وذلك عن طريق انتقاء الأحداث، واختيار المادة، وأسلوب الكتابة. أما مع العرض فتكون وجهة نظر الصحافي هي الموجهة للحديث عن الذات. فيكون الحديث بحثا، ليس عما ورد في السرد الكتابي، ولكنه مركز على «المخفي»، و»المسكوت عنه»، و»المحرج» أملا في استنطاق واستكشاف جوانب أخرى لم تتطرق إليها السيرة الذاتية الكتابية، وبذلك تكون استكمالا لما لم يبد في النص السردي. وهذا ما قام به الصحافيان. في العرض نجد الموضوع هو الذات المبأرة، إذ لا يمكن للذات إلا أن تستجيب للأسئلة التي «تفرض» عليها. وفي هذه الحالة نجد الذات المحاوَرة، وهي «تستنطق» حول جوانب من الحياة تتصل بها في ذاتها، أو في علاقتها بالمحيط الذي كانت تعيش فيه مواقف وأحداثا خاصة جدا. وتتخذ أساليب «التصريح» ـ الإجابة عن الأسئلة، أشكالا متعددة، مثل التهرب، أو التذكر، أو التصحيح، أو ما شابه ذلك، مما يجلي الصورة التي يبحث عنها الصحافي، أو يؤكدها جواب المتحدث عنه.
تناول الحوار السير ذاتي في «بعيدا عن الضريح» جوانب كثيرة من الحياة السياسية والمعرفية لأبو العزم في فترات حرجة من تاريخ المغرب المعاصر، وقدم لنا صورة شاملة عن تفاعل الذات مع نفسها وغيرها. وما أحوجنا إلى الحديث عن الذات لتحقيق الوعي بها، سواء من خلال السرد أو العرض عبر الشفاهي والكتابي والوسائط المختلفة، لأنه كفيل بجعلنا نتعرف على صور ومنظورات متعددة لواقعنا تتجاوز المتداول من وجهة نظر محددة.
يظل الحديث عن الذات أو الكتابة عنها أبدا ناقصا، ولا يمكن «اكتماله» إلا بتعدد منظورات الذوات.

٭ كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية