كثيرا ما نلمس تداخل العلوم والمعارف في شتى الحقول المعرفية باختلاف اتجاهاتها ومشاربها، ولكن إبراز حدود كل علم على حدة، أو بالأحرى توضيح الاختلافات والائتلافات الكامنة الكامنة بينها بشكل دقيق وملموس، وتحديد مواطن هذا التداخل، يشكل صعوبة، خاصة أن الأمر ينتج عنه ارتباك على مستوى المفاهيم والمصطلحات، وخلط في تحديد الأسس والجذور المعرفية لكل اتجاه، وإذ أننا لم نتبين بشكل جيد ودقيق الفروقات المنهجية والدلالية، لا يمكننا إلا أن نقع ضحية الالتباس والغموض وعدم استيعاب وإدراك كنه الأشياء، ما يفضي بنا لا محالة إلى استحالة الإبداع والتطوير، ويظل أمرا يعسر فهمه، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى اجترار آراء القدماء بوهم الأصالة والانتماء. هذا ما سنحاول الوقوف عنده، من خلال هذا المقال آخذين نظرية السيميائيات السردية نموذجا، فما هي حدود وإرهاصات بلورة مشروع نظرية السيميوطيقا السردية؟ وأين تتمثل أوجه التداخل والتفاعل بين السيميائيات والسرديات؟
إن المتتبع لنظرية السيميائيات السردية يرى أنها مفهوم واحد، في حين أنها متداخلة وتجمع في طياتها بين علمين، لكل واحد منهما أسسه وجهازه المفاهيمي وموضوعه المنظم لسيرورته، فالسيميائيات المعاصرة تعد من أخصب الحقول من حيث العطاء وتعدد روادها و(بارت، تدوروف، غريماص، أكريستيفا، كورتيس، إيكو، ريفاتير…) الذين ساهموا في بلورة مشروع السيميوطيقا الذي تنبأ له فرديناند دوسوسير بميلاد علم جديد سماه السيميولوجيا، قبل أن تعرف هذه النظرية تطورا مهما بالاستناد إلى خلفيات متنوعة ومرجعيات متعددة، أهمها اللسانيات البنيوية مع دوسوسير، والتوليدية مع تشومسكي، فضلا عن أعمال الشكلانيين الروس في شخص فلاديمير بروب الذي حاول مساءلة النص السردي بإخضاع الحكاية العجيبة إلى الدراسة وذلك، باقتراحه لآليات بناء الحكاية عبر قالب نموذجي عام، انطلق منه غريماص ومع استثمار نتائج الأنثربولوجي كلود ليفي ستراوس، ليتعدى بذلك حدود الحكاية إلى أدبية الخطاب في النصوص، ومن هنا يتضح لنا هذا التفاعل بين السيميائيات كنظرية عامة لتحليل الخطاب في شموليته، والسرد كموضوع من المواضيع الأولى التي انبنت عليه وتأسست على أنقاضه باعتباره أرضا خصبة، خاصة بعد التطورات التي لحقته، باعتباره لم يعد منحصرا في القصة أو الرواية أو كل ما هو مكتوب.
المتتبع لنظرية السيميائيات السردية يرى أنها مفهوم واحد، في حين أنها متداخلة وتجمع في طياتها بين علمين، لكل واحد منهما أسسه وجهازه المفاهيمي وموضوعه المنظم لسيرورته.
بل تعدى ذلك إلى أبعد تجلياته، وهو ما سنقف عنده أثناء حديثنا عن السرديات، سواء ببناء نموذجه العاملي، الذي خالفه في بعض مفاهيمه، خاصة الوظيفة التي اعتبرها بروب: «هي فعل تقوم به شخصية ما من زاوية دلالته داخل البناء العام للحكاية» وضبطه لمستويات تنظيم السردية، وبعد أن تحدث بروب عن الوظائف بالتفصيل، قام بتوزيعها على الشخصيات الأساسية في الحكاية العجيبة، فرأى أن هذه الشخصيات الأساسية تنحصر في سبع شخصيات (المتعدي- الواهب ـ المساعد- الأميرة- الباعث- البطل- البطل الزائف)، وما يلاحظ في هذا التوزيع الجديد للشخصيات عند بروب هو التقليل من أهمية نوعية الشخصيات وأوصافها، ذلك هو أساسي، هو الدور الذي تقوم به، وهكذا فالشخصية لم تعد تحدد بصفاتها وخصائصها الذاتية، بل بالأعمال التي تقوم بها ونوعية هذه الأعمال، وعلاوة على ذلك تجدر الإشارة إلى استفادة النظرية السيميائية من نظرية الأفعال الكلامية عند أوستن وسورل، ليكون غريماص هو رائد هذه النظرية بامتياز، من خلال تأسيسه للنموذج العاملي وتحديده للوظائف ورسمه للخطوط العريضة للتحليل السردي، والمتعلقة أساسا بالبرنامج السردي والسيميائي، و في حين أن السرديات هي علم قائم بذاته له قواعده وآليات بلورته وتشكله، من خلال رواده الأوائل، وحدوده وآفاقه، فالسرديات تعرف بكونها «علم يبحث في صياغة نظرية للنصوص السردية من خلال الاهتمام بسرديتها». أما القصة فهي تلك الأحداث المتتالية التي تجسد فعل السرد، إلا أن هذا العلم لم يتأسس إلا بفضل عدة اجتهادات شكلت الثوابت الأولى لتشكله، أهمها ظهور كتاب خطاب الحكاية لجيرار جنيت سنة 1972 الذي «أعلن عن الميلاد الحقيقي للسرديات»، على الرغم من أن السبق على مستوى نشر هذا المصطلح يعود لتدوروف سنة 1967، ولكن جيرار جنيت هو الذي يرجع له الفضل في تأسيسه قبل أن يتطور مع مجموعة من السرديين، نذكر من بينهم على سبيل المثال ميك بال وجان لينتفلت وتدوروف وكلود وبريمون ودوليزل وبارت وفرانتز شتانزل وغيرهم، من خلال دراساتهم ومشاريعهم السردية حول المقولات السردية أو مستويات الخطاب السردي (الزمن/ الصيغة /الصوت) وتمييزهم بين القصة والخطاب والحكي والسرد من جهة، ومكونات وعناصر القصة من جهة أخرى، فضلا عن التصنيفات السردية التي اقترحها كل واحد منهم والتي لا يسعفنا الوقت للحديث عنها، والتي ساهمت بجعل باب السرديات مفتوحا على مصراعيه لاجتهادات لا حصر له، جعلت منها من أهم الحقول المعرفية المعاصرة، إلا أن هذا العلم له أصول وجذور سواء القريبة مع تراث الشكلانيين الروس، أو البعيدة مع بويطيقا أفلاطون وأرسطو، أو الحديثة والمعاصرة عبر انفتاحه وعلى نظريات دلالية وتداولية وعلم النفس …. وسعت من مجال بحثه.
السيميائيات اهتمت بالدلالة وبالقصة، خاصة ما بات يصطلح عليه بآليات إنتاج المعنى، في حين أن السرديات ينصب مجال اهتمامها في شكل الخطاب وعناصره.
ختاما كجواب وعلى اللإشكالية المطروحة مسبقا أمكننا القول إن السرد عموما هو مجال وموضوع خصب للنظرية السيموطيقية منذ بدايات وإرهاصات نشأتها وما يدل على ذلك كتاب آن هينو الموسوم بـ«السيميائيات الحكائية» التي تزامن ولادته مع علم السرديات خلال الحقبة البنيوية كمظلة واحدة تتظلل بها كل من السيميائيات والسرديات، من خلال الاحتكاك والترجمة، كما أن السيميائيات اهتمت بالدلالة وبالقصة، خاصة ما بات يصطلح عليه بآليات إنتاج المعنى، في حين أن السرديات ينصب مجال اهتمامها في شكل الخطاب وعناصره، هو ما عبر عنه عبد المجيد النوسي في كتابه القيم الموسوم بـ«سيميائيات السرد» بقوله: «يجب أن نتصور النظرية السيوطيقية بشكل يجعل بين المستويات العميقة التي تأخذ فيها المادة الدلالية تمفصلاتها الأولى وتتشكل بصفتها شكلا دالا…تتأطر ضمنه بنيات سيميوطيقية تمتلك نظاما مستقلا من بينها البنيات السردية»، كما أنه يصعب تحديد مواطن الإئتلاف وحدود الاختلاف بشكل دقيق بين السيميائيات والسرد، وحاولنا باختصار في هذا المقال الوقوف عند ما هو ضروري ومهم والنقاط العريضة التي تؤطر كلا المبحثين بدون التعمق في التفاصيل والمفاهيم، بالوقوف عند رؤية تاريخية حول خطاب التأصيل للنظرية السيميائية السردية، في ظل التراكمات التي عرفها المنجز السيميائي السردي العربي الحافل بجملة من الكتاب في هذا المضمار يرجع لهم قصب السبق، ويمكن للقارئ العودة إليها للتوسع أكثر في هذا المجال، خاصة المغاربة كسعيد بنكراد وسعيد يقطين وعبد المجيد نوسي ثم فريد الداهي وعبد الله بريمي ومصطفى الشادلي وآخرين، بعد ما عرفته السيميوطيقا المعاصرة من اتجاهات مست كل أشكال الخطاب .
٭ كاتب مغربي