ربما يلجأ المُبدع الذي يؤمن بالسينما كأداة تعبير وتأثير أحياناً إلى الخروج عن المألوف، باستحداث نوع آخر من الأفلام يعتمد على الفكرة المجردة أكثر ما يعتمد على المضمون السردي، باعتباره العنصر التقليدي المُتبع والمفهوم لدى الجمهور المُستهدف.
وعادة ما يكون التوظيف التجريدي للسينما محض تفكير فلسفي يذهب بالمعاني بعيداً عن مداراتها القريبة ويرتبط هذا الشكل بمستويات فكرية وفلسفية أكثر تعقيداً وعمقاً من مجرد التصوير المبدئي والأولي للأشياء، ولعل التجارب المصرية الرائدة في هذا الشأن، ترجمت بعض هذه المفاهيم حين حوّل المخرج الراحل مدكور ثابت القصة القصيرة «حكاية الأصل والصورة « للكاتب نجيب محفوظ إلى فيلم سينمائي فأكسبها طابعاً سينمائياً فلسفياً ودخل بها مجال التجريب السينمائي لأول مره لتصبح تجربته نموذجاً ومقياساً لمحاولات تالية بعد ذلك. ورغم الحديث عن الفروق الجوهرية بين الفيلم التجريبي والفيلم الفانتازي، إلا أن ثمة مُشتركات معينة تربط بين النوعين السينمائيين اللذين يتخليان في معظم المحاولات عن فكرة الحوار السردي، ويُعملان مبدأ التعويض عن غياب الحوار بالرمزية الموحية بالمعنى ودلالات الصورة والموسيقى والإضاءة وفن المونتاج، وغيرها من تقنيات العلم السينمائي البحت. وهذه النظرية يطبقها عادة بعض الأكاديميين الذين أحاطوا بعلوم الفن السينمائي، واكتشفوا أهميته في عملية التوظيف خارج إطار الحكي والاعتماد الكلي على القصة التراجيدية، أو الاجتماعية أو الكوميدية، وتتسم نظرية التجريب بالصعوبة البالغة، سواء في التطبيق أو التلقي، ولهذا ظلت مُغتربة بكل أشكالها، وبقي المغرمون بها من الكُتاب والمخرجين معزولين عن جمهور العامة، مرتبطين فقط بجمهور المثقفين، ما نتج عنه نُدرة في النوع الإبداعي واتساع للمسافة الفاصلة بينه وبين عشاق السينما التقليدية.
لقد اقترنت السينما التجريبية إلى حد بعيد بالسينما التسجيلية، كونها من الجنس ذاته المُتصل بتسجيل الواقع بصمته وتفاعله من غير الضرورة القصوى للأصوات المُعبرة عن المحتوى، كصوت الحوار المنطوق بين الأبطال، على سبيل المثال، اللهم غير التعويض بالمؤثرات الصوتية، كما أسلفنا، مضافا إليها المؤثرات الضوئية وتجليات الصورة الغنية بالتفاصيل الذهنية والجمالية، وإذا كان المخرج الراحل مدكور ثابت هو صاحب الفضل في ابتكار الأسلوب التجريبي في السينما المصرية، وصاحب التجربة النوعية الفريدة في فيلم «حكاية الأصل والصورة» المأخوذ عن قصة الأديب نجيب محفوظ، والمُسندة بطولته لمحمود ياسين ومحمود المليجي وشهيرة قبل عدة سنوات، فإن ما لحق بالتجربة من تجارب أخرى أخذت شكل الفانتازيا، كان امتداداً لها، فالمخرج رأفت الميهي أبدع أيضاً في أفلامه «ميت فل» و«سيداتي آنساتي» و«السادة الرجال» و«ست الستات» و«تفاحة» وكذلك المخرج سعيد حامد عندما قدم فيلمه «الحب في التلاجة» بطولة يحيى الفخراني كأول تجربة إخراجية له عام 1992.
غير أن أفلاماً أخرى حذت الحذو نفسه، وحاول مخرجوها نقل رؤاهم السينمائية وفهمهم للواقع بطريقة مُختلفة، كفيلم «عرق البلح» للمخرج رضوان الكاشف، الذي تبنى مفهوماً غير واقعي غلب عليه الطابع التجريدي تأثراً بالمدرسة ذاتها وإتباعاً للأسلوب الفلسفي باعتباره من الدارسين للفلسفة والمُطبقين لمرجعياتها، وهو أيضاً البادئ بمشروع الفيلم التسجيلي في مسيرة الإخراج القصيرة التي عاشها وقدّم من خلالها بعض التجارب القليلة المميزة كفيلم «الجنوبية» و»ليه يا بنفسج» و»الساحر». وإن كان الكاشف قد صُنف وقت ظهوره في أوائل الثمانينيات بأنه من المُنتمين للواقعية السحرية كمنهج واتجاه، لكنه لامس بالقطع شكل وطبيعة وسمات السينما التجريبية في جوهرها التعبيري الخالص، فلم يكن يستهدف غير الفكرة كبطل رئيسي في أعماله، أما القصة والحدوتة الدرامية فلم تشكل غير الإطار الخارجي للمحتوى الأعمق من منظوره الشخصي، على الأقل، وظل على قناعاته إلى أن رحل قبل أن تتبلور كل أفكاره الإبداعية.
ولو اعتبرنا أن كل مُغاير ومُختلف عن السينما التقليدية هو اتصال بمفهوم التجريب الحديث في السينما المصرية، خاصة في ما يتصل منها بالأفلام التسجيلية والقصيرة، فيُمكن اعتبار الغالبية العظمى من إنتاج الأعوام القريبة السابقة، من أواخر الألفية الثانية وحتى نهاية عام 2022 امتداداً لهذا التيار، فهناك أفلام كثيرة طرحت أفكاراً حداثية متطورة تجاوزت ما تم طرحه في التجارب الأولى، فبعض الأفلام خرجت عن تصوير الواقع المُعاش على الأرض، إلى آفاق العوالم الافتراضية في الكواكب الأخرى، إذ استلهمت من التطور العلمي ما يرقى إلى النظريات الميتافيزيقية «ما وراء الطبيعة «، وهناك بالفعل عمل درامي بهذا الاسم.
وقد عمدت الدراما التلفزيونية إلى اختراق هذه المنطقة، بالنفاذ الإبداعي لاستشراف المُستقبل البعيد، فجاءت أعمال مهمة مثل مسلسل «النهاية» ليوسف الشريف قبل نحو 5 سنوات تقريباً، وهو الذي أثار جدلاً واسعاً حول موضوعه ومضمونه وغايته، وبذلك دخلت الدراما طرفاً في مُعادلة التجريب والحداثة.
كاتب مصري