السينما السعودية ضد الهوليووديـة!

مفهوم السينما السعودية في وعي الآخر يعتريه الغموض والارتباك. فهي سينما بلا مرجعية سوسيولوجية ولا ملامح فنية. وكل ذلك الكم من المحاولات لصنع أفلام سينمائية ذات قيمة فنية، لا يعني الإقرار بوجود صناعة سينمائية حقيقية في السعودية. فالسياق الفني والتاريخي لتلك المحاولات يفصح عن نقدية اجتماعية تلبس لبوس الفيلم، وتحصد بموجبها جوائز الترضية والتشجيع.
وربما لهذا السبب تنازل خالد ربيع (ولخصوصية ما) عن استعمال عبارة «ما يسمى سينما سعودية» التي غالباً ما تتبع أي حديث عن الصناعة السينمائية في السعودية، ليستخدم تجاوزاً – مصطلحات سينما سعودية، وإنتاج سينمائي، وفيلم سينمائي. وذلك في كتابه «فيلموغرافيا السينما السعودية» الذي صاحب الدورة الأولى لمسابقة الأفلام السعودية عام 2008.
ويبدو أن معظم المتصدين للصناعة السينمائية قد أستمرأوا هذا الدور الهامشي، ولم يغادروا المختبر المنذور لإنتاج أفلام بدون نص ولا حرفية فنية، بذرائع جاهزة تتمثل في غياب صالات العرض، وانعدام المعاهد المتخصصة، وندرة كتاب السيناريو، وقلة الدعم المادي. وكل تلك الحجج لها وجاهتها في التبربر، ولكن لا علاقة لها بفنية الإنتاج السينمائي. فمن يتأمل مُجمل الإنتاج يلاحظ استخفاف غالبية المتورطين في صناعة السينما بأهمية وجدوى تجويد العمل.
كل من يحاول أن يصنع فيلماً في السعودية يمكن اعتباره في عداد الأبطال التنويريين، وذلك لأسباب موضوعية معروفة. وكل صناعة سينمائية في بداياتها تصاب بمجموعة من الارتباكات التقليدية. وهو أمر مفهوم ويمكن التغاضي عنه لفترة، إلا أن الخلل الذي ينبغي التوقف عنده هو انحياز معظم المحاولات السينمائية للسينما الغربية، أي تمثُّلها للخطاب الهوليوودي. فيما يُفترض أن تكون امتداداً للتفكير الشعبوي والأداء العالمثالثي، من حيث الرؤية والأدوات والقضايا. وأن تنتسب لما يُعرف بالسينما النضالية Militant Cinema بحيث يكون جوهر خطابها السينمائي نضالياً في المقام الأول، أي أن تناقد الجهة التي تمنع وجودها، من خلال إنتاج مادة سينمائية على درجة من التماس مع الفكر، ومنفذة بجمالية أبعد ما تكون عن الثرثرة والخطابية، بمعنى أن تكون جزءاً من الحركة الاجتماعية التاريخية السياسية. وليس محلاً لتوليد النجوم والمشاهير الذين تم توطينهم في المهرجانات العالمية تحت عنوان «شرف المحاولة»، وبإيحاء من ضغوط الثقافة البرجوازية.
هناك تيار سينمائي عالمي يدعو إلى مقاومة الهوليوودية، والتصدي للإمبريالية الثقافية الأمريكية.. وهو تيار يحقق نجاحات عند صُنّاع السينما في أمريكا اللاتينية وعند الإيرانيين المنشقين عن المؤسسة الرسمية، حيث تخفّف منتجو هذا النوع من السينما من آثار الاستعمار السينمائي، وأنتجوا صيغتهم الثقافية الفنية المرتبطة بقيم التحرّر، ليس بالمعنى النضالي السياسي وحسب، بل بالمعنى الفني أيضاً. وهو الأمر الذي يستوجب التخلي عن فكرة تقليد الإنتاج الغربي واستنساخه بعمى ثقافي. وإنتاج أفلام تحرُّرية ذات طابع ثوري في مناحي الفن والحياة.
هذا هو التحدي الذي ينبغي على صُنّاع السينما في السعودية مواجهته، أي إنتاج أفلام تتخلى عن التبريرات وتتجاوز الرقابة والمؤسسة بكل ما تتيحه أدوات الميديا اليوم من تسهيلات وإمكانيات، أي من خلال أشرطة سينمائية مخلصة للفن أكثر من أي شيء آخر، وهو أمر يبدو في المتناول وبدون كُلفة إنتاجية عالية. ومن خلال قوالب مغايرة لمتطلبات صالات العرض واشتراطات النجومية، لأن هذا النوع من الأفلام ينهض في المقام الأول على النص وعلى وجود كادر فني يعي تماماً مغزى ومعنى العملية الفنية. المهم أن تكون رؤية الفيلم خارج رؤية ومعايير النظام الاجتماعي والسياسي. وليس تكريساً له بطريقة تهريجية كأفلام «كيف الحال» و»مناحي» و»صباح الليل».. وما يستتبع ذلك من مشتبهات سينمائية.
وبالتأكيد لا يمكن اختصار المحاولات السينمائية في تلك التمثيليات الهزلية التي تتلبس بالصناعة السينمائية، فمنذ فيلم «اغتيال مدينة» لعبدالله المحيسن، عام 1977، الذي يؤرخ به للسينما في السعودية، والأفلام تتوإلى، حيث أخرج «الإسلام جسر المستقبل» و»الصدمة» و»ظلال الصمت». وصولاً إلى فيلم «وجدة» لهيفاء المنصور، الذي شكل منعطفاً جديداً في الأداء السينمائي على مستوى الحرفية. وكانت قد أخرجت من قبل فيلم «أنا والآخر».
إلى جانب متوالية أخرى من المحاولات، وكذلك عبدالله العياف الذي أخرج «السينما 500 كم» و»إطار» و»عايش». وأيضاً بدر الحمود الذي أخرج «مونوبولي» و»كتاب الرمال» و»قلم المرايا»، بالإضافة إلى قائمة طويلة جداً من الأسماء والمحاولات التي تراوح إنتاجها ما بين الفيلم التسجيلي والروائي. وجاءت في الغالب كاجتهادات متواضعة فنياً، على الرغم من وجود التمويل المادي لبعضها، والمساعدة الفنية الخارجية في بعضها، كما ظلت رهينة للرؤية الهوليوودية على الرغم مما تختزنه من مراوحات للتمرد وإعلان الحضور.
إن ذلك النوع من السينما النضالية، الناشئ ضمن ظرف تاريخي بمواصفات وشروط باتت ملموسة، والمؤدى بواسطة جماعات صغيرة أشبه ما تكون بحرب العصابات لكسر احتكار الفضاء الاجتماعي، لم يأخذ صيغته التحررية الصريحة، بل استغرق في النقدية الاجتماعية بشكلها السطحي، وذلك من خلال موجات الأفلام القصيرة، ومقاطع اليوتيوب، التي لا تتطلب نصاً فكرياً أو أدبياً، بقدر ما تنهض على الارتجال. والنتيجة تجلت في مفارقة عجيبة، حيث ازدحم المشهد السينمائي بالنجوم من الممثلين والمخرجين، مع ركام هائل من الأفلام، وغياب السينما ذاتها.
وكل ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى مراكمة الخبرات باتجاه صناعة سينمائية حقيقية، بقدر ما يحيل كل الجهد إلى استعراضات خطابية، تجعل من الفيلم منصة للصراخ الأيديولوجي. فالسينما تتجاوب مع الصراع، وتنبني على مستوجباته. وهو ما يحتم وجود تعبير سينمائي يعكس حقيقة الصراع، ويعاند كل مظاهر الاستلاب، بمعنى أن يكون في أولويات السينما في السعودية محاربة الطابع الاستحواذي للثقافة الاستلابية لا الاستسلام لها وتمثُّل أدواتها ووسائلها التعبيرية.
وهذه ليست دعوة لتسييس المحاولات السينمائية في السعودية، إنما هي فكرة لتحسين المنتج وهو في بواكيره، وذلك باستثارة وعي السينمائيين وتأصيل السمات القومية لما يُنتج من أفلام، أي تخليصها من سطوة مؤسسات الإنتاج، التي تضغط شكلياً وبنائياً ولغوياً على مجمل المنتج، وتؤدي حتماً إلى اغتراب تعبيري. فيما توجد خيارات واسعة للإفلات من بلادة التقليد والنسخ الآلي، لأن صناعة الأفلام اليوم باتت في متناول شرائح أعرض من السابق بكثير، في ظل وفرة الوسائل وسهولة الحصول عليها واستخدامها، خصوصاً من جانب الطلبة الذين يمكنهم استثمار لحظة الوعي.
إن كثرة الطرق على انعدام الصالات السينمائية من قبل السينمائيين تعني أن حدود وعيهم بعملية الإنتاج السينمائي لا تتعدى الاستهلاك. وهي صورة من صور الاستلاب الثقافي التي تضع كل القضايا الحيوية في المدار الاستهلاكي الترفيهي، وهو الأمر الذي يفسر طغيان الحسّ الفكاهي في منتجات اليوتيوب ووخزات النقد الاجتماعي، مع غياب الفكرة وانعدام النص التي تُختبر بموجبه جودة المُنتج وقدرات الممثل، وكل تلك الدعاوى خاوية ولا تمتلك أي رصيد منطقي، فالفضائيات مفتوحة للإنتاج الدرامي على اتساعها، وهي لا تقدم إلا التهريج والتفاهة تحت عنوان الفن.
هناك مساحة واسعة لإنتاج أفلام تسجيلية جادة، حيث يتجاوز الفيلم مفهوم الشريط البصري إلى الوثيقة أو التقرير أو الشهادة التي تكتسب قوتها من النضالية، ومن التجريب باتجاه إحياء الشخصيات المؤمكنة التي تختزن رمزية عالية، كمحاولة محمود صباغ ـ مثلاً – في فيلمه «بطحاء مكة – قصة حمزة شحاتة». وإن كانت تفتقر إلى لمسة التشويق الاحترافية. على اعتبار أن الفيلم رؤية ثقافية مستكملة بوجهة نظر سينمائية، وهو الأمر الذي يفتح الباب على اتساعه لصُناع السينما في السعودية للابتعاد عن الهوليوودية لصالح السينما العالمثالثية المعنية باستعادة الحقيقة وتوطينها في محاولاتهم، بحيث تكون الأفكار هي البديل عن النجومية، والجماهير عوضاً عن الأفراد.

كاتب سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Yasmeen Myrad - UAE:

    لماذا نسمع عن افلام سعودية ولانراها ، مهما كان مستوى هذه الأفلام يجب ان تخرج للنور ليراها عامة الناس ، ان كان عبر مواقع التواصل الأجتماعي أو مهرجانات سينمائية . للأرتقاء بمستوى هذه صناعة تحتاج لنقد الجمهور الذي هو الناقد الحقيقي لاختلاف اراءه ، التي يتم تحليلها بسلبياتها وايجابيتها للمساعدة في تطوير مستواها .

إشترك في قائمتنا البريدية