برلين ـ ادريس الجاي: في اجواء بدايات فصل ربيع مبكر اطل على وهاد المنطقة الشرقية من ارض الجرمان، حملت نهايات شهر اذار/مارس المنصرم اجواء عرسين سينمائيين عربيين متتالين الى العاصمة الالمانية برلين، الدورة الخامسة لمهرجان الفيلم العربي ‘الفيلم’ من 19 الى 26، الذي منح لجمهور السينما العربية خيارا وافرا من الافلام الروائية الحديثة المسلية والنقدية واخرى دار حولها جدال مثل فيلم الافتتاح ‘عمر’ للمخرج الفلسطيني هاني ابو سعد، الفيلم الذي يتناول موضوع المتعاونين مع الاسرائيليين ضد وطنهم وافلاما تسجيلية وكذا افلاما تمثل دعائم التحولات في تاريخ السينما العربية مثل باب الحديد للمخرج يوسف شاهين.
فقد تصدرت المشاركات العربية مصر بأكثر من اربعة عشر فيلما، كما لم تقل مساهمة كل من تونس، فلسطين، لبنان، الامارات العربية المتحدة وسوريا عن ستة افلام ما بين الانتاج الذاتي او المشترك مع دول عربية او اوروبية اخرى.
كما كانت هناك انتاجات عربية مشتركة بين مصر وسوريا مثلا او بين لبنان والعراق او الامارات العربية. اما مشاركة المغرب في هذه الدورة الخامسة فقد كانت ثلاثة افلام بينما اقتصرت مشاركة كل من الارن، البحرين والجزائر على فيلم واحد. لفقد عكست هذه المجموعة من الافلام على اختلاف مواضيعها رؤى مبدعيها فيما يتعلق بالقضايا الراهنة الذاتية منها والجماعية في ظل التحولات والتطورات الاجتماعية والسياسية، التي يعيشها المشهد العربي وفي مقدمتها المواجهة مع الانظمة والعدو المباشر فوق ارض فلسطين. كما انها ابانت عن التشابه الكبير بين هذه المجتمعات العربية على الرغم من المساحات الفاصلة بينها جغرافيا. كما كانت هناك مشاركات فردية مثلها مخرجون عرب يقيمون في دول اوروبية.
البقعة البيضاء
ففي نفس اليوم، الذي اسدل فيه الستار على مهرجان الفيلم العربي بحضوره المكثف من الشرق الاوسط كان الجمهور البرليني المهتم بالسينما العربية على موعد ثان مع الفيلم العربي من المغرب الاوسط. وذلك من خلال التظاهرة السينمائية، التي عرفتها فضاءات ‘دار ثقافات العالم’ تحت عنوان: ‘الجزائر بعد 1954 ـ تأملات سينمائية’ من 26 الى 30 مارس. فقد كان الدافع من وراء هذه التظاهرة، كما جاء في الورقة التقنية التنظيمية هو التعريف بالسينما الجزائرية، التي: ‘رغم جودتها العالية، مخرجيها وممثليها الرائعين، فهي بالكاد معروفة في هذا البلد. فكما السينما الجزائرية هو ايضا البلد نفسه، ورغم انه يقع أمام أبواب أوروبا، فانه ‘بقعة بيضاء’ على خريطة أطلس دول جواره الفعليون على الجهة المقابلة من البحر’.
لقد شكلت دائما مواضيع حرب التحرير الركائز الاولى لانطلاق السينما الجزائرية سواء في صيغتها الدرامية مثل فيلم ‘ريح الاوراس’ او في صيغتها الدرامية الكوميدية مثل فيلم ‘حسن طيرو’ لمحمد لخضر حمينا، ‘الليل يخاف من الشمس’ لمصطفى بديع او ‘العفيون والعصا’ لاحمد الراشدي او الفيلم الذي ينتمي الى الثورة الجزائرية ‘معركة الجزائر’ للمخرج الايطالي جيلو بنتيكورفو سنة 1966 والذي فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان البندقية، وحتى اليوم ايضا لازالت تشكل هذه المواضيع قضايا حية في حركة الافلام الجزائرية الجديدة. فقد ركز اختيار أفلام التظاهرة على إثنين وعشرين فيلما منها الروائي، الوثائقي والتاريخي، التي تعود بالذاكرة الى مراحل حرب التحرير في الجزائر وكذا على ‘سنوات الظلام’، الحرب الأهلية في التسعينات. في نفس الوقت تقدم هذه الأفلام الى جانب كل هذا تحليلا نقديا جريئا للحالة السياسية والاجتماعية الراهنة في البلاد، التي لم يمرعليها حتى الان ‘الربيع العربي’، رغم ان الجزائريين ينظرون بالاجماع، الى سنوات الثمانينات في الجزائر على انها كانت هي بدايات الربيع العربي. وهذا ما حاول تجسيده فيلم ‘الخريف’ للمخرج والممثل مالك لخضر حمينا .
حرب التحرير والقنبلة النووية
فبهذا الاختيار لمجموعة من الافلام، التي تم عرضها بايعاز من الناقد السينمائي وأستاذ السينما في جامعة الجزائر، أحمد بجاوي، الذي يمثل شخصية محورية في السينما الجزائرية خلال الاربعين سنة الاخيرة، يطل المهرجان من خلال افلام روائية ووثائقية على خطوط تطور هذه السينما السياسي والسينمائي، بالإضافة إلى الإنتاجات التي تمثل دعائم بارزة في تاريخ السينما الجزائرية، مثل فيلم ‘وقائع سنوات الجمر’ للخضر حمينا، والذي يعد اول فيلم من شمال افريقيا حصل سنة 1975 على السعفة الذهبية في مهرجان كان رغم العقبات والضغوطات، التي مارسها السياسيون الفرنسيون على المهرجان، فقد تم ايضا تقديم اربعة افلام وثائقية حديثة للعموم داخل مركب دار ثقافات العالم، كتحية اجلال لصانعي السينما والتي تعكس جوانب مجهولة إلى حد كبير من حرب الاستقلال الجزائرية وتداعياتها. فيلم ‘السينما والحرية’ للمخرج سعيد المهداوي، الذي تطرق فيه الى دور السينما والتصوير في المواجهة مع المستعمرين الفرنسيين، الذي وثقه سينمائيو الحرية: ‘الذين يجعلون الرأي العام العالمي يحتك بصور المعاناة والنضال’. ‘علبة كولواز’ للمخرج مهدي شارف، حول المراحل الاخيرة لهذه الحرب وذلك من خلال عين ابن مناضل جبهة التحرير الوطني البالغ من العمر 11 عاما وصديقيه الفرنسي والعربي. فيلم ‘الجزائر، دوكول والقنبلة’ للمخرج العربي بن شيحة يتناول موضوع معاهدات افيان لعام 1962. فبينما تم الاتفاق على وقف إطلاق النار استمر الفرنسيون في تجاربهم النووية في الصحراء، التي بلغت قوة تفجيراتها عدة مرات اكثر من قنبلة هيروشيما وكذا أبعاد برنامج الأسلحة النووية. ايضا التوثيق لمهرجان الجزائر الافريقي الموسيقي لسنة 2009 الذي شارك فيه عدد من الفنانين من داخل وخارج الجزائر. او فيلم افريقيا السوداء، الذي يعرض مهرجان الحلم الافريقي بافريقيا قوية ومستقلة.
يعد فيلم افتتاح التظاهرة ‘الدليل’ لعمر حكار، من احدث الافلام الجزائرية سنة 2013 الذي يتناول حاضر المجتمع الجزائري واغلال الافكار التقليدية. سائق سيارة الاجرة يرغب في انجاب ولد لكنه لا يستطيع ذلك، فيجعل نفسه يفحص سريا في مدينة اخرى. اثناء عودته يحمل معه امرأة حبلى تدعي انها حامل منه فتصبح حياته خارج السيطرة. فيلم الدليل رشح لجائزة المهر العربي في مهرجان دبي السينمائي 2013. اما فيلم عمر حكار الثاني فهو ‘الدار الصفراء’، فتدور احداثه حول البيروقراطية الادارية في الجزائر. وقد حصل الفيلم على عدد من الجوائز منها جائزة اوكارنو سنة 2007 في مهرجان فيلم البحر الابيض المتوسط في فلنسيا.
تاريخ، النسيان
‘زردة وأغاني النسيان’ هو فيلم اول مخرجة في تاريخ السينما الجزائرية اسيا جبار. الفيلم، الذي حصل سنة 1983 على الجائزة الخاصة في مهرجان برلين السينمائي. والذي تقوم فيه اسيا جبار بجرد تاريخي لمراحل التوغل الاستعماري وحالة الضعف السياسي في شمال افريقيا من مصر الى المغرب وذلك من خلال الصورة الوثائقية ولغة الشعر: ‘في غرب شمال افريقيا الخاضع تماما والمرغم على السكوت يتوافد المصورون والمخرجون، لالتقاط صور لنا… زردة موت فرح بطيء، من المفترض انهم يريدون ان يبدأوا بنا …’. الكاتبة الحائزة على عدة جوائز، سواء في المجال السينمائي او الروائي، التي تعتبر من اشهر روائيات شمال اقريقيا، تقدم هنا نظرة غريبة للسادة المستعمرين كاشفة، ناقدة وبمرارة تصورهم من خلال الموسيقى التصويرية الخاصة بهم: أصوات مجهولة المصدر تتداخل مع ‘أغاني النسيان’ لقد خلقت جبار ابتداء من سنة 1980 انطلاقا من فيلمها الشعري طريقة جديدة لفهم التاريخ الجزائري .
‘الفيلم الجزائري، ستون عاما لاحقا.. كان هو عنوان الندوة، التي جمعت كل من الاستاذ والناقد احمد بجاوي، الكاتب والمخرج السينمائي المالي مانتيا دياوارا والمخرجة صافيناز بوصبايا، التي شاركت بفيلمها الاول ‘الكوستو’، والذي تتبعت فيه عازف الغيتار مصطفى التهامي البالغ من العمر ثلاثا وسبعين سنة عبر شوارع الجزاِئر العاصمة، حيث يتذكر هذا الاخير زمن الفرق الموسيقية التي كان يكونها الموسيقيون المسلمون واليهود. انه فيلم يتحدث عبر الموسيقى عن التسامح الديني والتعايش السلمي، الذي دمرته الحرب الاهلية واهداء الى روح ابي الموسيقى الشعبية الجزائرية الحاج امحمد العنقا. كما شارك في الندوة المخرجون سعيد ولد خليفة، الذي قدم فيلمه ‘زابانا’ الدراما التاريخية، عن اعدام المناضل احمد زبانا سنة 1956، البالغ انذاك الثلاثين من العمر. فقد بدأت المعارك مع زبانا، الذي كان يناضل منذ سنوات ضد القوة الاستعمارية. وكريم موسوي، الذي قدم فيلمه ‘الايام السابقة’ عن ‘السنوات المظلمة’ للحرب الاهلية في الجزائر في صور من المتناقضات وقد قدم فيلمه في اطار ليلة خاصة بالافلام القصيرة، ‘ليلة الفيلم القصير’ والتي عرفت بدورها فيلم ‘الجزيرة’ لامين سيدي بومدين رؤى خيالية لمستقبل الجزائر حصل على افضل فيلم قصير في مهرجان ابو ظبي 2012. وفيلم القراقوز لعبد النور زحزاح، يتناول الماضي القريب، رحلة محرك الدمى، الذي يستعمل بمعية ابنه الدمى كوجوه مقاومة ضد التعصب الديني. فقد تم في هذه الندوة مسائلة التاريخ السينمائي الجزائري والانتاجات الحالية. فإذا كان الفيلم الجزائري لصيق بحرب التحرير ابتداء من سنة 1954 هل يعد هذا جرحا او مصدر ابداع بالنسبة للجيل الجديد؟
سينما المرأة
فإذا كان فيلم ‘يما’، للمخرجة جميلة الصحراوي، الذي يعد من ابرز الانتاجات الجزائرية الاخيرة، الذي تدين فيه كبقية افلامها الاخرى الارهاب، هو المشاركة الوحيدة للسينما الجزائرية في مهرجان الفيلم العربي في برلين، فان حضورها في تظاهرة الفيلم الجزائري: ‘الجزائر بعد 1954’ كان هو الاخر تأكيدا سابقا لفيلم يما على قوة وشجاعة المرأة في المقاومة ضد التطرف والارهاب، الذي عرفته الجزائر. وذلك من خلال فيلمها ‘بركات’ الذي عرف عرضه الاول في مهرجان برلين السينمائي ‘برلينال’ سنة 2006 كما فاز بجائزة افضل فيلم عربي في مهرجان دبي في نفس السنة.
لقد اتاح العرسان السينمائيان العربيان للجمهور البرليني المهتم بالفيلم العربي، فرصة اثراء مداركه واهتمامه من خلال جزء هام من الانتاجات السينمائية العربية بصفة عامة والجزائرية بصفة خاصة، مما يساهم بالتأكيد في بناء جسر لتقريب تصورات المجتمع العربي من شرقه الى غربه، احلامه، رؤاه، آماله وتطلعاته، التي عكسها عدد كبير من المبدعين السينمائيين، من الانسان في الضفة المقابلة من القارات المتجاورة.