تسببت عولمة الثقافة الأمريكية بإشكالات مفاهيمية امتدّت وانتشرت خارج سياقها الأمريكي، وبعضها تكرّس وتحديداً في المجال السينمائي، حيث للولايات المتحدة، من خلال هوليوود، سطوة كبرى على كل العالم، فيكون الفيلم المستقل الأمريكي، مفهوماً، مسقطاً على ما دونه.
باختصار، يمكن لفيلم أمريكي أن يكون مستقلاً إن كان خارج الإنتاج والتوزيع التقليديين والمسيطرين منذ أكثر من قرن، فيكون مستقلاً عن السائد. لا تخضع لذلك أفلام غير أمريكية لأنها ليست أساساً في وارد الإنتاج الهوليوودي. فلا يكون فيلم فرنسي مستقلاً لأنه منفصل عن هوليوود. الناس يخلطون بين المستقل، وسمات أخرى كفيلم المؤلف أو/و الفيلم الفني، أو، كما يقال مراراً، الفيلم الأوروبي.
الفيلم المستقل هو إذن وحصراً في سياق أمريكي، هو فيلم يمكن أن يموَّل هوليوودياً، لكنه اختار الاستقلالية عن السائد. رأينا هذه الأفلام منذ قرن مع تشارلي تشابلن ثم جون كاسافيتز وبعده جيم جارموش، وغيرهم، وقد انتشرت بقوة في الستينيات والسبعينيات مع الحراكات الطلابية والاجتماعية في الولايات المتحدة، متزامنة مع مثيلاتها في أوروبا، واستمرت إلى اليوم وقد طال المفهوم ضبابية وتداخلت فيه المعايير والاعتبارات.
توجد العديد من المحاولات لخلق نوع سينمائي أو تيار ما، أمريكياً، من خلال نصوص وأفلام أقرب إلى البيانات، لكن لم توجد تيارات في الولايات المتحدة، بل اكتفت الأفلام بالأنواع، كوميديا، تراجيديا، رعب، حرب، حركة، إلخ. وهذا كله ينقسم إلى المستقل وغيره. إلى ما يُسمى بالإندي، اختصاراً لكلمة مستقل، وسينما هوليوود. لكن ذلك تغير في الأعوام العشرة الأخيرة. دخلت منصات البث التدفقي لتغير من الصورة كاملةً. نتفلكس و HBO وأبل وأمازون وغيرها. دخلت على الخط لتكون جهات إنتاج وتوزيع، وتدريجياً لتنال من سيطرة الاستديوهات مشكّلة خطراً حقيقياً (زال لحسن الحظ) على صالات السينما. فهل هي جهات إنتاج بديلة عن الاستديوهات الكبرى مثل يونيفيرسال وباراماونت؟ وماذا عن منصات فنية وفعلاً بديلة مثل موبي؟
كانت المنصات في بداياتها جهات بديلة عن هوليوود، لكنها كبرت وعظمت وصارت موازية لكبرى استديوهات الإنتاج السينمائي هناك. تكفي، إشارة لذلك، التصريحات والتلميحات الغزلية التي تصل هذه المنصات، وهي أمريكية فقط، من قبل كبرى المهرجانات الأوروبية في كان وفينيسيا وبرلين. ليست أي من تلك الاستديوهات اليوم أكبر من شركة مثل نتفلكس، وتماماً ليست أفلام تلك الاستديوهات استهلاكية أكثر مما هي أفلام المنصات، بل العكس من ذلك، متتبّع الإنتاجات السينمائية في الأعوام، لنقُل، العشرة الأخيرة، يجد حضوراً لأفلام على المنصات تفوق في استهلاكيتها وغبائها تلك التي أنتجتها استديوهات بعضها أتمّ مئة عام من عمره وقدم كلاسيكيات أبدية للسينما.
هل يمكن إذن للاستديوهات أن تقدم سينما جيد أو ممتازة؟ طبعاً. والمنصات؟ طبعاً. لكن الكلام في ذلك نسبي دائماً، فمنسوب الأفلام الممتازة لهذه المنصة أو ذلك الاستديو يبقى قليلاً جداً. هل المنصات إذن، اليوم، تقدم سينما بديلة عن تلك الهوليوودية؟ لا. سينما أفضل أو أسوأ؟ لا. أين السينما المستقلة الأمريكية في كل ذلك إذن؟ حتى المنصة المستقلة، لكنها واسعة الانتشار وشديدة التأثير، موبي، تتكفل بتوزيع أفلام لها سمات أفلام الاستديوهات أو المنصات الكبرى كافة، بدءاً من حضور النجوم وضخامة الإنتاج وصولاً إلى أمكنة العرض، منها فيلم «المادة» الذي نال في مهرجان كان السينمائي الأخير جائزة أفضل سيناريو. لا يبدو فيلماً مستقلاً وإن رعته منصة أفلام فنية ومستقلة.
الفيلم الممتاز لا يعود بامتيازه إلى اسم شركة الإنتاج، أمريكية كانت أو أوروبية، منصة أو استديو. هو غالباً فيلم فني، يكترث بالجماليات السردية والبصرية، لكن يمكن لفيلم يمنح الأولوية للجانب التجاري، بانياً فنّياته وتقنياته على استثارة المتفرج وتفريغ عواطفه، يمكن أن يكون ممتازاً، فالحديث هنا عن أعمال فنية وذلك يتطلب دراسة كل عمل على حدة. لكن، من الضروري الإشارة إلى النسبية في كل ذلك، فنسبة الامتياز في السينما الفنية، تلك التي تفضّلها صالات صغيرة ومستقلة (بالفرنسية: Art et Essai، وبالإنكليزية Arthouse) تفوق بكثير النسبة في تلك التجارية، أو المعروضة في سلسلة صالات كبرى نجدها غالباً في مراكز تسوّق وتكون بكراسٍ فارهة تتحوّل إلى ما يشبه الأسرّة، وشاشات عملاقة منحنية، والبوشار منشور على أرضيّتها، والتكييف المبالغ فيه عاجز عن إزالة رائحته.
تداخلَ الكثير من السينما المستقلة الأمريكية بالسينما السائدة، فالمستقلة كبرت شركاتها وضخم إنتاجها، وهي حاضرة دائماً في المهرجانات. والاستديوهات تكافح المنصات. بل يظن أحدنا لوهلة أن هوليوود صارت سينما أقل سيطرة وسطوة من المنصات وتغوّلها، كأن الاستديوهات صارت سينما مستقلة عن المنصات، وتراجعت السينما المستقلة حقيقةً، خطوة لتكون بديل البديل. ليس الأمر تماماً كذلك، هي مبالغة تشاؤمية وحسب.
يخطر لي مثال راهن (وهو كفيلم «المادة» معروض حالياً في الصالات العالمية)، فيلم «أنورا» للأمريكي شون بيكر، أحد الأسماء البارزة في السينما المستقلة الأمريكية من جيله اليوم، بميزانيتها المنخفضة وحريتها الابتكارية وتفاديها للنجوم. نال الفيلم السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي هذا العام، وهي الجائزة الأكثر تقديراً عالمياً (من بعد الأوسكار بالنسبة للأمريكيين). الفيلم يبقى ضمن تصنيف المستقل، وهو امتداد لسينما بيكر. لكن الفيلم صاحب الميزانية المتخطية لما يعرف عن السينما المستقلة بكل الأحوال، يُعرض في صالات كبرى، وسيترشح لعدة أوسكارات وقد ينال منها، فهو إنجاز أمريكي في مهرجان كان السينمائي، وسيكون فيلماً «سائداً» وقد يمثّل توجهاً سينمو في تلك البلاد، فهل سيبقى الفيلم مستقلاً؟ وهل حياة الفيلم من بعد عرضه الأول ستؤثر في تصنيفه كمستقل؟ إشارة لا بد منها هنا، رئيسة لجنة التحكيم لتلك الدورة في المهرجان الفرنسي، كانت غريتا غيروينغ، هي كذلك من أبرز الأسماء في السينما المستقلة، لكن قبل أن تكون مخرجة فيلم هو نموذجي للاستهلاك والغباء السائدين، «باربي».
لأن النقاش، كما بدأت به هذه المقالة، في موضوع كهذا لا حواسم فيه، تبقى أسئلة كهذه مفتوحة من دون إجابات تغلقها، ويبقى الفيلم الممتاز ممتازاً في النهاية، بغض النظر أين عرض وكيف. وتبقى الملامح في طور التماهي أكثر، بين الهوليوودية والاستقلالية، وأخيراً بينهما وبين المنصاتية.
كاتب فلسطيني سوري