بدءا لابد من التذكير بأن السينما المستقلة في ما تنشده من نتاج سينمائي، يذهب في محتواه وبنيته التقنية باتجاه الانقلاب على قواعد اللعبة السينمائية التقليدية التي عادة ما ترعاها شركات الإنتاج الكبرى، وهذه السينما البديلة عادة ما تنبثق عن رغبة قوية لصانعي أفلامها في أن يكونوا على قدر من الجرأة في التعبير عن رؤاهم الشخصية إزاء الواقع والحياة والوجود وبطرق فنية مبتكرة، وهنا تكمن بذرة الصراع التي تواجهها السينما المستقلة والتي تهددها بعدم قدرتها على الاستمرار، وانطلاقا من هذه الدائرة الجدلية تمضي الأفلام المستقلة بكل ما لدى صناعها من تطلعات إلى أن تعتمد في تمويل نتاجها على الموارد المالية الذاتية أو التمويل الجماعي، ودوافعها في ذلك أنها تستهدف عبر خطابها جمهوراً واسع النطاق، وطرح موضوعات غير مطروقة في السينما التقليدية، وكسر جمود أساليب السرد السينمائي المستهلكة. وسيكون من المنطقي أن هذا النمط من الأفلام لن يتحقق إلا بعيدا عن سيطرة شركات الإنتاج الكبيرة التي تعمل وفق آليات النموذج الهوليوودي.
بدأت السينما المستقلة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وجاء ظهورها بمثابة تيار مضاد لنظام الأستوديو التقليدي، الذي يعد ركنا أساسيا لصناعة السينما في هوليوود. وفي تلك الفترة اشتهرت أفلام اتسمت بميزانيات منخفضة، ومواضيع جريئة ومثيرة للجدل، ومع مرور الوقت تطورت هذه الحركة لتشمل أنواعاً من الأفلام تتناول قضايا اجتماعية وثقافية معاصرة، مثل العنصرية والجندر وحقوق الإنسان.
يتمتع صانعو الأفلام المستقلة بحرية أكبر في التعبير عن رؤاهم الفنية بدون الخضوع لضغوط تجارية، ما يسمح لهم تقديم أشرطة سينمائية تتميز بالأصالة والتفرد، طالما تتوغل وبجرأة في خفايا مواضيع سياسية واجتماعية حساسة ومعقدة ليس من السهل أن تجد طريقها إلى الأفلام التجارية، وسيترتب على ذلك صعوبات لا مفر من مواجهتها وستجد بسببها كل الطرق أمامها غير سالكة في مسألة التوزيع، لذا يتعين عليها أن تعتمد طرقا غير تقليدية، مثل المهرجانات السينمائية والعروض الخاصة والمنصات الرقمية للوصول إلى الجمهور، لأن شركات توزيع الأفلام التقليدية المهيمنة على السوق، تحجم عن إيصالها لدور العرض، ولا غرابة أن تضع أمامها العراقيل، لأنها تعتقد بعدم قدرتها على تحقيق الأرباح، ولا تمنحها كذلك فرصة المنافسة، وإزاء هذا الحال يلجأ صانعو الأفلام المستقلة إلى جمع التبرعات والمنح والتمويل الجماعي، ورغم أهمية هذا الخيار لكن هذا لا ينفي أن عملية الإنتاج غالبا ما تكون غير مضمونة، كما أن الدخول في منافسة مع الأفلام التجارية الكبيرة للوصول إلى جمهور واسع سيفرض عليها معرقلات جمة، مع أن الأفلام المستقلة لها خاصية بغاية الأهمية تتمثل في أنها تقيم علاقات وشيجة مع قصص وشخصيات وأحداث واقعية غالباً ما تهملها الشركات الكبرى في نتاجها.
سينما المهمشين
عندما نقرأ موضوعات الأفلام المستقلة نجدها تمنح الفرصة للفئات المهمشة حتى يعلو صوتها، بالتالي فهي تفتح نقاشات جادة حول قضايا تهم الإنسان والمجتمع، ويمكن عدها وفق هذا النهج منصة لاكتشاف المواهب الجديدة، من ممثلين ومخرجين أو كتاب سيناريو. إذن لامناص من اعتبارها نافذة نطل من خلالها على عوالم وتجارب إنسانية مخفية عن المتلقين، والفضل في ذلك يعود لإصرار العاملين فيها على أن تستمر هذه السينما في النمو والتطور لكي تبقى تمارس دورها الحيوي كرافد رئيسي لتجديد الخطاب السينمائي. إلا أن نجاحها يبقى مرهوناً بعوامل متعددة تشمل: الجودة الفنية، الابتكار، القدرة على الوصول إلى الجمهور، التكيف مع التحديات المالية والتوزيعية.
وعلى الرغم من القيود العديدة التي تواجهها، إلا أنها تمتلك القدرة على تحقيق نجاح كبير وبطرق مختلفة، لعل في مقدمتها سعيها لتقديم محتوى مبتكر وبأسلوب غير تقليدي قادر على أن يجذب الجمهور الباحث عن تجربة سينمائية مختلفة.
لمواجهة مشكلة التمويل باعتبارها أعقد الصعوبات أمام تيار السينما المستقلة فإن منصات عالمية مثل Kickstarter وIndiegogo تسمح لصانعي هذه الأفلام بجمع الأموال بشكل مباشر من الجمهور المهتم بالمشاريع الإبداعية. هذا إضافة إلى أهمية دعم المجتمعات المحلية والأندية السينمائية والمؤسسات الثقافية والمنظمات غير الربحية في تمويل مشاريع صناع الأفلام المستقلين.
وفي ما يتعلق بعملية التوزيع فقد بات الاعتماد على التوزيع الرقمي من خلال شبكات الإنترنت ومنصات البث مثل Netflix وAmazon Prime Video يأخذ الأولوية من حيث الاهتمام، إذ تتوفر في هذه الخيارات منافذ لصناع الأفلام المستقلين للوصول إلى جمهور واسع بدون الحاجة إلى توزيع تقليدي مكلف. كما تساهم المهرجانات السينمائية في الترويج للأفلام المستقلة مثل مهرجاني Sundance وCannes حيث توفرت فيهما منصات لعرض الأفلام المستقلة وجذب انتباه النقاد والجمهور والموزعين، وبطبيعة الحال فإن الحصول على الجوائز والتقييمات الرفيعة في المهرجانات يعزز من سمعتها ويساهم في تأمين توزيعها. ومن التحديات الأخرى التي تواجهها هذه الأفلام صعوبة الاعتراف بها وتقديرها من قبل النقاد والجمهور على حد سواء، خاصةً إذا كانت تتناول مواضيع غير تقليدية أو حساسة.
نماذج سينمائية
يمكن الإشارة هنا إلى نماذج من الأفلام المستقلة التي حققت نجاحات فنية وتجارية كبيرة، مثل: فيلم « Pulp Fiction (1994)للمخرج كوينتن تارنتينو، ترشح إلى سبع جوائز أوسكار من ضمنها أفضل فيلم، فاز بجائزة أفضل سيناريو أصلي، كما نال جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1994. والفيلم الكوري الجنوبي «باراسايت» (2019) فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. والفيلم الأمريكي «مونلايت» (2016) فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم. وفيلم «إيريك براش»(2004) الذي تم إنتاجه بميزانية محدودة وحقق نجاحاً تجارياً كبيراً وأصبح من الأفلام الكلاسيكية.
ومن أبرز مخرجي السينما المستقلة الذين كان لهم تأثير واضح في صناعتها من خلال رؤاهم الفريدة وإبداعهم الفني كوينتن تارانتينو، والأخوين كوين، جيم جارموش، ريتشارد لينكلاتر، بول توماس أندرسون، دارين أرونوفسكي، ويس أندرسون، سبايك لي، كاثرين بيجلو، كيفن سميث. وقد استطاع هؤلاء تقديم أفلام مميزة تمكنت من تحدي الصعوبات التقليدية في الإنتاج والتوزيع.
العرب والسينما المستقلة
لاشك سيطرح سؤال: هل هناك سينما مستقلة في الدول العربية؟ المتابع لواقع الإنتاج السينمائي في المنطقة العربية سيجد أن هذا النوع ليس غائبا عن المشهد السينمائي وإن كان في إطار محدود جدا يصعب اكتشاف تأثيره في المشهد السينمائي العام، في الوقت نفسه يمكن ملاحظة ما حققته السينما المستقلة من نجاح على المستوى الدولي في العقدين الماضيين، حيث قدمت رؤى جديدة تناولت فيها قضايا اجتماعية وسياسية بطرق فنية برزت فيها الناحية الجمالية في تقنيات السرد. وتتشارك السينما المستقلة في العالم العربي مع زميلاتها في بقية دول العالم في عدد من الهموم والقضايا، منها: شحة الجهات الممولة، صعوبة التوزيع، صرامة الرقابة الرسمية والمجتمعية، محدودية الدعم من قبل المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. ورغم هذه التحديات إلا أنها تواصل النمو والتطور من خلال نجاحها في تأكيد حضورها في المهرجانات السينمائية الدولية والمنصات الرقمية.
وإذا ما أردنا إثراء المشهد السينمائي العربي يمكن المراهنة على تبني استراتيجيات فعالة لدعم صناعة الأفلام المستقلة، لأن هذه السينما تتسم بجرأتها، وسعيها إلى تخصب التفكير السينمائي بفكرة التجاوز والابتكار على مستوى الشكل والموضوع. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى عدد من المخرجين العرب المنخرطين في السينما المستقلة الذين تمكنوا من إثبات حضورهم الفني في المهرجانات الدولية منهم، أحمد عبدالله (مصر) كوثر بن هنية ونوري بوزيد (تونس) نبيل عيوش وليلى المراكشي (المغرب) نادين لبكي وزياد دويري (لبنان).
تأثير العامل السياسي
يؤثر المناخ السياسي السائد في الدول العربية بشكل مباشر على حرية التعبير، ويجعل ظروف الإنتاج أكثر صعوبة لصناع الأفلام المستقلين، بسبب الخوف من الانتقام أو المضايقات التي قد تطالهم من قبل السلطات، وحتى لو تمكنوا من إنتاج أفلامهم، فإن توزيعها يمثل تحدياً كبيراً أمام القيود السياسية التي تمنع عرضها أو رفض منحها الموافقات الرسمية لعرضها في المهرجانات المحلية أو الخارجية، ولمواجهة هذه المتاهة، أخذ الكثير من صناع الأفلام المستقلة التوجه إلى الإنترنت والمنصات الرقمية للوصول إلى جمهور أوسع، ولكن هذا الخيار يبقى محدوداً في تحقيق تطلعاتهم، نظراً للفجوة الرقمية وتفاوت الوصول إلى الإنترنت بين الدول العربية، إلا أن الدور المهم يبقى مرهونا على ما تقدمه المهرجانات الدولية من دعم وتسويق ومنح مادية مثل مهرجان كان، وفينيسيا، وبرلين، حيث وفرت منصات للأفلام المستقلة، ومنها ما يتم إنتاجه في العالم العربي، ويمكن لهذه الأفلام بعد أن تحصد الجوائز والتقدير النقدي الكبير أن تعزز سمعة هذا النوع من الصناعة السينمائية.
ولكي تكتمل الصورة لابد من استعراض عناوين بعض الأفلام العربية المستقلة التي تؤكد تأثير السياسة عليها، مثل الفيلم المصري «اشتباك» (2016) إخراج محمد دياب، الذي تناول أحداث العنف السياسي بعد الثورة المصرية عام 2011 فرغم نجاحه الدولي إلا أنه واجه تحديات محلية في التوزيع والعرض بسبب محتواه السياسي. والفيلم اللبناني «القضية رقم 23» (2017) إخراج زياد دويري، الذي يتناول قضايا سياسية واجتماعية معقدة، أثارت جدلاً واسعاً في لبنان، وقد لاقى نجاحاً دولياً وترشح لجائزة الأوسكار. كما واجه الفيلم التونسي «على كف عفريت» (2017) إخراج كوثر بن هنية جدلا كبيرا في تونس، لأنه تناول قضايا الفساد والعنف الجنسي في تونس.
قيود على حرية الإبداع
بناء على ذلك من غير الممكن التقليل من تأثير السياسة على السينما المستقلة في المنطقة العربية، سواء من خلال الرقابة أو التمويل أو قضايا حرية التعبير، فالرقابة والقيود على المحتوى في عديد الدول العربية أقل ما يقال عنها بأنها صارمة، وهذا ما يحد من حرية التعبير والإبداع، والأفلام التي تتصدى لمواضيع لها صلة بالسياسة أو الدين أو الجنس غالباً ما تواجه صعوبات في الحصول على الموافقة للعرض، بالتالي فإن القيود المفروضة على المواضيع التي يمكن تناولها غالبا ما تدفع المخرجين إلى تجنب بعض القضايا الهامة، ما يؤثر سلباً على التنوع الفني والثقافي في الأفلام. إلى جانب ذلك فإن بعض الحكومات التي تقدم دعماً مالياً للأفلام، تشترط أن يكون محتواها منسجما مع السياسات الرسمية، وهذا النهج لا يتوافق مع حرية الإبداع في تناول الموضوعات، في مقابل ذلك إذا ما لجأ صناع الأفلام إلى التمويل من قبل مؤسسات دولية أجنبية، فإن ذلك سيؤدي إلى تأثيرات خارجية على صناعة السينما المحلية وتوجهاتها.