السينما ما بعد الكولونيالية… تقييم النموذج المعرفي

رامي أبو شهاب 
حجم الخط
0

تُعنى السّينما ما بعد الكولونيالية بالأفلام التي تناقش إرث الاستعمار، كما تأثيراته، وبوجه خاص قضاياه التي تتصل بالهوية والسلطة والمقاومة، كما التعددية الثقافية، غير أنّ المعضلة تكمن في كيفية تمكين هذا المستوى من حيث الإجراءات والمنطلقات التي ينتهجها صانعو الأفلام – ضمن السياق ما بعد الكولونيالي- كما أيضاً تفعيل الجانب النقدي بُغية اكتشاف الثيمات والعلائق التي تتميز بها هذه الأفلام، ما يحتم التساؤل عن وجود وعي بهذه الصيغة؟ أم أن الإنشاء السينمائي يخضع لمقاربة الموضوع دون فهم للمستويات العميقة؟
ثيمات وقضايا
من أبرز الثيمات التي تعالجها السينما ما بعد الكولونيالية تمثيل الهوية، والثقافة، من مبدأ أن هذه الصيغة تتخذ من الصراع موضوعاً رئيسياً لها بهدف استعادة الهوية الثقافية، وإعادة تعريفها بعد الاضطراب الذي سببه الاستعمار، وهنا نتمثل فيلم «عرس الجليل» للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، الذي قدّم اختزالات عميقة للوقائع الاحتلالية، وبذلك تمنح السينما ما بعد الكولونيالية صوتا لأولئك الذين أسكتتهم الرواية الاستعمارية، بالتوازي مع تقديم مقولة الهوية الثقافية، والأهم الخصوصية النقية للمجتمعات المستعمَرة قبل التشوّهات التي نتجت بفعل الاحتلال، بالتوازي مع تصوير المقاومة، ونماذجها عبر تقدير قيمة النضال، ولكن عبر ابتكار صيغ وحكايات جديدة من أجل تجنب المباشرة، ومن أمثلة تلك الأفلام «لاجان» (2001) لأشوتوش جاواريكر، وفيه تتحدى قرية هندية حكام الاستعمار البريطاني في مباراة كريكت لتجنب الضرائب القمعية. ومن القضايا التي تعالجها السّينما ما بعد الكولونيالية التعددية الثقافية، إذ تذهب إلى مُعاينة المزج أو التصادم بين الثقافات المتعددة مع محاولة إماطة اللثام عن الإرث المتشابك بين المستعمِر والمستعمَر، ومن الأمثلة عليها فيلم «شوكولا» (1988) لكلير دينيس، الذي يعكس التفاعلات بين المستعمرين الفرنسيين والمجتمع الافريقي في الكاميرون.
ومن أهم الاتجاهات التي تعالجها السينما ما بعد الكولونيالية توفر فاعلية نقد الروايات الاستعمارية، ولاسيما القوالب النمطية، أو التمثيل المسبق بهدف تفكيك الأساطير الاستعمارية، كي تقدم نقدا واضحاً للتأثيرات التاريخية والمستمرة للإمبريالية، كما في فيلم «المنطقة 9 » (2009) لنيل بلومكامب، الذي يتبنى الخيال العلمي بوصفه استعارة للأبارتايد والاستعمار في جنوب افريقيا.


إنّ اهم ما يميز هذا النوع من السينما السعي المستمر إلى التفكير في واقع ما بعد الاستقلال، حيث تتوجه السينما ما بعد الكولونيالية ـ في بعض الأحيان- إلى التّحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تواجهها الدول المستقلة حديثا، وبذلك فهي لا تلتزم بنموذج الماضي أو المقاومة فحسب، إنما تتقدم لنقد الواقع أو الحاضر، كما السعي إلى التفكر بالمستقبل بكل ما يحمله ذلك – أحياناً – من حساسية، ولاسيما في مواجهة النخب الوطنية التي يخلّفها الاستعمار، ووظيفتها الأساسية إكمال المهمة الإمبريالية، ويطالعنا بهذا الصدد فيلم «تسوتسي» (2005) لجافين هود الذي يعالج موضوع الجريمة والفقر في جنوب افريقيا، ولاسيما في حقبة ما بعد الأبارتايد.
وهكذا نجد أنّ هذا النمط من السينما يلجأ إلى تطوير المنظورات التي يمكن من خلال مناقشة الاستعمار عبر تبني بِنى استعارية أو كنائية، وبذلك يمكن القول، إنها سينما لا تقتلها القيم الموجهة، إنما هي على وعي بالقيم الجمالية والفنية لتأطير الخطاب المضاد للاستعمار، والنماذج الكولونيالية الثقافية.

السينما والدراسات ما بعد الكولونيالية

يمكن القول إن السينما ما بعد الكولونيالية تعدّ أداة فاعلة لمناقشة إرث الاستعمار، وتداعياته، ولكنها ينبغي ألا تبقى رهينة رؤى تاريخية، وأنماط مستهلكة، بل عليها أن تثير تأملات نقدية حول القضايا العالمية المعاصرة المتعلقة بالاستعمار، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه المخرجون، وصانعو السينما، ولاسيما السينما الفلسطينية التي ينبغي أن تخرج من ضيق الأفق نحو اكتناه القيم المحيطة، التي يمكن أن تتعلق بالواقع الفلسطيني، وقضيته المركزية، وفي هذا السياق نطرح السؤال الأهم، ويتمثل بمقولة، ما الذي يشكل دراسات السينما ما بعد الكولونيالية؟ وهنا أستعين بطرح كل من ساندرا بونزانيزي ومارغريت والر، في كتابهما «دراسات السينما ما بعد الكولونيالية»، وفيه تشددان على أهمية وجود نهج ديناميكي وسلس، بدلاً من اعتماد نوع ثابت أو تصنيف محدد، فالقيمة المنوطة بهذا النوع من الأفلام يجب أن يتصل بمعالجة الانحرافات الديناميكية عن النماذج الاستعمارية، وهنا تقترح المؤلفتان أنّ على السينما ما بعد الكولونيالية ألا تعلق بطرق التفكير، ومناقشة الهياكل الاستعمارية للسلطة والمعرفة فحسب، ذلك أنّ الأمر لا يتعلق بموضوعات الأفلام بقدر ما يتعلق بكيفية تفاعل هذه الأفلام مع القضايا التاريخية والذاتية والسياسية، التي تحتاج إلى بحث معمّق، وحساسية جديدة تعتمد قيمة ابتكارية شديدة الخصوصية.

العدسة ما بعد الكولونيالية

تشير مؤلفتا الكتاب إلى أنه ينبغي أن تتضمن دراسات السينما ما بعد الكولونيالية استخدام «العدسة ما بعد الكولونيالية» أو المنظور (المعاينة) من أجل اكتناه الأفلام عبر تطبيق هذا المنظور، أو تبني منظورات متعددة، بمعنى آخر على أنواع مختلفة من السينما، بما في ذلك السينما الثالثة، والسينما النسوية، والسينما متعددة اللهجات، والسينما العابرة للحدود الوطنية، فضلاً عن السينما العالمية، إذ يساعد هذا الإجراء في إعادة تقييم أفلام الإمبراطوريات التي تصدر أو صدرت من لدن هوليوود، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، وإيطاليا الفاشية -على سبيل المثال- مما يؤدي بالضرورة إلى توضيح الطبيعة المتداخلة والمستمرة للتفاعلات بين الحُقبتين: الاستعمارية وما بعدها.
الفضاء المفاهيمي

تعدّ فكرة الفضاء المفاهيمي أساسية كونها تنشّط إقامة الروابط، كما استنتاج الأفكار التي غالبا ما تكون مخفيّة، أو مُضمرة بسبب التّصورات الوطنية والاستعمارية، وبذلك ينبغي الابتعاد، أو تجنب المعايير العالمية، من خلال تبني وضع معرفي مرن كي يكون بديلاً ناجحاً من خلال نهج ينهض على الاعتراف المتبادل والتفاعل، فضلاً عن استراتيجيات منهجية وجمالية جديدة، كما سبق أن ذكرنا في مقدمة هذا المقال.
مناطق مشتركة: دراسات السينما
ومن القضايا المحورية التي ترتبط ارتباطاً وثقياً بالمعالجة الخاصة بالسينما ما بعد الكولونيالية، أهمية الإقرار بقيمة الدراسات السينمائية، التي تتقاطع مع السينما ما بعد الكولونيالية، حيث يمكن أن يعملا بشكل متآزر في نقد الأفلام، وبذلك يتحقق الإثراء المعرفي من منطلق أن كلتيهما تتعاملان مع التمثيل، فضلاً عن إرث العنف المعرفي على سبيل المثال، وبهذا يمكن إعادة تشكيل التصورات الإنسانية في هذا المجال، ومن ناحية أخرى فإن هذا النهج يغذّي الممارسة النقدية ما بعد الكولونيالية التي تتمكن من اكتشاف عوالم جديدة.

الإنتاج والتوزيع والاستقبال

إذا ما نظرنا إلى معظم نتاجات السينما الفلسطينية -على سبيل المثال- بوصفها سينما ما بعد الكولونيالية فسنجد أن معظم تلك النتاجات قامت على تعاون مشترك من حيث الكادر، أو الإنتاج أو التمويل، كما الجوانب التقنية الفنية، وبذلك فإن هذه السينما تتميز بأنها عابرة للحدود، في حين أن عملية التوزيع تتم عبر شبكات بديلة، كما أنها قد تعرض في أماكن متنوعة، وبذلك فهي تبدو أقرب إلى تحقيق الشروط العالمية للتجارب ما بعد الكولونيالية.

السياق التاريخي والتأثيرات

تناقش الباحثتان في كتابهما السياق التاريخي، نقص التفاعل بين الدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات السينما، ولاسيما في الأوساط الأكاديمية، فعلى الرغم من وجود مفكرين مؤثرين مثل: إدوارد سعيد وفرانز فانون وغاياتري سبيفاك وهومي بابا، وما تحتمله مقارباتهم المتبصرة والعميقة من نقاشات حول قضايا تقع في صلب الدراسات الاستعمارية، ومنها التمثيل والآخر الثقافي، مع التشديد على وجود الإرث الأيديولوجي المستمر للاستعمار الذي يستمر بعد انتهاء الاستعمار الرسمي، غير أن الدراسات السينمائية، ما زالت عاجزة عن إدراك بعض قيمة هذه التوجهات، وتمكينها في القيم البحثية والإجرائية.
السينما الثالثة
تعدّ السينما الثالثة شكلاً ثوريا كونها تنهض بصورة مبدئية على معارضة الهيمنة الأيديولوجية والجمالية والاقتصادية للسينما الهوليوودية السائدة (السينما الأولى)، كما أنها تواجه السينما الأوروبية المستندة إلى الدول القومية (السينما الثانية)، وبذلك تركز السينما الثالثة على الجماهير، بغية تحقيق أهداف سياسية واضحة، وهي غالبا ما تستخدم أشكالا مبتكرة، فلا عجب أن تُوصف – من قبل البعض- بأنها سينما المقاومة والتخريب بداعي تبني السياسة المناهضة للإمبريالية والنظرية النفسية التحليلية، ولعلي في هذا المستوى أستحضر نماذج للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان التي تتميز بنزعتها الابتكارية المغايرة عن النمط السائد.
هكذا تبقى الإشكالية التي تعالجها الباحثتان متصلة بمحدودية عدم تداخل الدراسات ما بعد الكولونيالية مع دراسات السينما بشكل فاعل، على الرغم من وجود الروابط الجلية، كما المناطق المشتركة، ويمكن أن أضيف النوايا والتوجهات والأهداف، بيد أنّ عدم استغلال هذا قد يُفقدنا الكثير بالنظر إلى تأثير النظرية ما بعد الكولونيالية على النقاشات، حول التمثيل والحدود الثقافية، ولاسيما بتأثير المفكرين الرئيسيين، فالدراسات السينمائية ـ عامة – تدين إلى أعمال فلاسفة ومنظرين مثل: جيل دولوز، وإيلا شوحاط، وروبرت ستام، بالإضافة إلى منظّري الدراسات الثقافية السوداء، وأهمهم: مانثيا دياوارا، بالإضافة إلى الباحثة النسوية التفكيكية – ما بعد الكولونيالية غاياتري سبيفاك، حيث أسهمت أعمالهم مجتمعين بإطلاق نقاشات جادة حول التمايزات التاريخية والجمالية والمعرفية في السينما ما بعد الكولونيالية.
نخلص إلى أن كلا من دراسات السينما والدراسات ما بعد الكولونيالية قد أمستا معنيتين بخلق مساحة مفاهيمية تتجاوز الحدود الوطنية والاستعمارية بالاعتماد على المنظور ما بعد الكولونيالي من أجل تحليل الأفلام، وفهمها ضمن سياقات قابلة للاتساع، مع نقد تأصل المركزية الغربية، وإقامة سردية سينمائية أكثر وعياً بالمعضلة الاستعمارية، وتوابعها.
كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية