في كتاب التعريف يجمع ابن خلدون بين ظاهرتين: السيرة والتاريخ؛ أي الحياة بوصفها رحلة في عمق التاريخ الإنساني بكل عواصفه وتحولاته، أي لا سيرة خارج هذه المدارات؟ قد يبدو ذلك غريباً بعض الشيء لأننا عندما نتحدث عن السيرة الذاتية نتجرد من كل ما يجعل الذات تخرج عن أنيتها وخصوصيتها وتدخل فيما هو عام، يتقاسمه جميع البشر، أي لا خصوصية فيه. مع أنه لو نتأمل قليلاً سنجد ذلك التقاطع الحميمي بي الذاتي والموضوعي.
فردية ابن خلدون وتورم نرجسيته وتمايزه الثقافي أيضاً، عناصر أهلته لكتابة شيء يرفع من هذه الفردية نحو سقف المشترك العام. خصوصية مصدرها جرأته وثقافته واتساع أفقه ومداركه الكثيرة، ما وضعه في منأى عن المناورات وهو يكتب سيرته بشكل شبيه باليوميات، معتمداً على أهم اللحظات فيها. كان صريحاً وقاسياً أحياناً ضد الغير وضد نفسه أيضاً، ربما لأن ذلك جاء في نهاية حياته، لأنه توفّي، بعد كتابة [التعريف] بقليل الذي شكل العتبة الأخيرة في الحياة. وعلى الرغم من الإدانات الصريحة أو المبطنة لبعض السلاطين الذين اشتغل في قصورهم كاتباً ومحاوراً وناصحاً، لا نعتقد أنه كتب سيرته بالحرية التي أرادها. هو يعرف سلفاً أن أي انزلاق يمكن أن يؤدي به إلى ما لا يحمد عقباه. في كل سيرة، تحت ضغوطات سياسية وأخلاقية ودينية، هناك خطابات تظل متخفية إلى أن يأتي وقتها فتظهر. لنا أن نتخيل طبعاً، وفق هذا الاحتمال، ماذا كان عبد الرحمن بن خلدون سيكتب لو لم يكن مرتبطاً بدوائر السلطة حيث يضيّق الخوف من مساحات الحرية. الخوف الذي يشعر به القارئ في كل جملة من جمل السيرة. دوافع قول الذات كانت أكبر مما كان يحيط بها من مخاطر، نتساءل أحياناً ونحن نقرأه كيف استطاع أن ينفذ من شبكة الذين قتلوا بشيء أقل بكثير مما قاله أو فعله ابن خلدون. على الرغم من ذلك كله تجرأ كاتب نص [التعريف] الذي احتوى على كم هائل من المعلومات الخاصة والتاريخية العامة، ولم يمنعه ذلك من التوغل في عمق ذات ترى نفسها في أعالي السلم ولا تقبل عن ذلك بديلاً. هذه المنطقة المركبة بين الذات المغالية في حضورها والتاريخ الأندلسي في بدايات انهياره، منطقة لم يعرفها جورج ماي وهو يغوص في عمليات التجنيس لهذا، لفن السيرة الذاتية بكل عناصرها المكونة لها. العقل الغربي مؤطر بيقينه، تكاد تكون عنصرية غير معلنة، ومتحضرة، تحصر الحقول المعرفية كلها في دائرة الغرب الغارف، ضاربة عرض الحائط بالحقول المعرفية الإنسانية الغنية. على الرغم من أن الفاصل بين كتاب [التعريف] وسيرة روسّو ما لا يقل عن ثلاثة قرون، سبق فيها ابن خلدون روسّو بكثير، بناء على التنظيرات التاريخية للجنس السِّيَري، إلا أن العقل الغربي اليقيني ظل في اندفاعه نحو اعتبار سيرة روسو هي العتبة الأولى في السيرة في كتابه [الاعترافات]. مع أن شبكة العناصر المكونة لسيرته لا تختلف في شيء عن سيرة ابن خلدون.
لم يأت كتاب التعريف من الصدفة أو التقليد. تنام تحت جلده بشكل يكاد يكون سرياً، تقاليد سردية قديمة نشرت متفرقة، لكن على الرغم من قيمتها لم تشكل ظاهرة ثقافية نوعيه ومنظمة بالمعنى النقدي؛ فقد نمت داخل نسق سيري عربي طويل، فهي ليست مفصولة عن هذا المسار، بل تكتسب شرعية النوع من هذه الممارسة.
السردية العربية القديمة التي خلفت وراءها نمطاً حكائياً وصل إلى القمة في نماذجه العليا، تركت لنا أيضاً نصوصاً سيرية لا تقل قيمة عما هو موجود عالمياً. لم يخل الأمر من كتب وضعها أو أملاها بعض من الأسلاف من كبار المفكرين والأدباء العرب عاشت حتى اليوم، تحمل سيرهم وجزءاً حياً من حياتهم. قد يغلب الطابع التبريري من الناحية الفنية كما في [المنقذ من الضّلال] للإمام أبي حامد الغزالي، أو طابع التسجيل المسهب للترقي العلمي كما في [سيرة ابن سينا]، لكن ذلك لم يمنعها من أن تكون سيراً ذاتية أعطتنا بعض خصوصيات رجال الدين والفكر والفلسفة، وطبيعة الزمن الذي عايشوه بجماله وعلمه، وحروبه وأوبئته. ساعد فعل التدوين على شيوع ذلك بشكل واضح. والوثائق الموجودة اليوم والدراسات النقدية المنجزة في هذا السياق تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن العرب قد اطلعوا قديماً على الكثير من سير غيرهم، وترجموا بعضها إلى اللغة العربية. فقد استعانوا بالفكر اليوناني ومنجزاته الإنسانية في مختلف المجالات اللغوية والفلسفية، وفي المحاكاة السيرية أيضاً، إذ كانت الترجمة وسيلتهم الأساسية للدخول في عمق فكر الغير، أبرزها ما كتبه الطبيب اليوناني غالينوس ( 130- 200م) وترجمه حنين بن إسحاق 260 هـ، وقلده في سيرته وتبعه محمد بن زكريا الرازي الذي توفي في 313هـ، ثم تعدد إنتاج الفلاسفة والعلماء والأدباء والرحالة والصوفية والساسة في تسجيلهم لسيرهم، وإبراز ما سلكوه في تربيتهم وأنماط سلوكهم وما صادفوه من محن وما شاهدوه من أحداث، وما خلفوا من مؤلفات أمثال الجاحظ وابن حزم وغيرهم[1]».
وتواكبت السير مع الرعيل الأول من العلماء، فكتب في القرن الخامس الهجري ابن سينا ترجمته. وظل التواتر واضحاً من زمن إلى زمن بدون أن تكون هناك قطيعة معينة في هذا الفن الوافد من حيث جرأته وخصوصيته. لم يخرج الغزالي (ت 505 هـ) في المنقذ من الضلال عن هذه الدائرة التي تريد تسجيل خصوصيتها العلمية والحياتية؛ فشرح بالتفصيل ما عاناه في حياته الفكرية. أما أسامة بن منقذ584هـ، فقد قص كل مشاهداته في الفترة الصليبية القاسية التي جاءت في شكل مذكرات لا تختلف كثيراً عما يكتبه كثير من المثقفين عن مشاهداتهم في رحلاتهم أو في حياتهم الخاصة. وروى لسان الدين بن الخطيب 776 هـ، في سيرته [الإحاطة في أخبار غرناطة] حيث روى انكساراته وأحزانه.
الملاحظة التي يمكن إبداؤها في هذا السياق هي أن مجمل هذه السير كان يغلب عليها الطابع التاريخي، كما أنها لم توضع مستقلة، ولكنها كانت أجزاء من مؤلفات كبيرة كما هو الحال بالنسبة لابن خلدون في تعريفه الذي كان جزءاً من مؤلفه الضخم: كتاب العبر. لم يكن أصحابها يغوصون في أعماق ذواتهم خوفاً من المجتمع أو تفادياً لما يمكن أن يحدث لاحقاً، فلم يسمح للسيرة العربية بتأسيس خصوصيتها، وظلت في حدود الشذرات الأولية باستثناء القلة القليلة منها التي لم تكن كافية لتدفع بهذا الجنس الأدبي إلى الانفصال والتحقق النهائي.
ما حققه كتاب [التعريف] في هذا السياق كان كبيراً، فقد حكى ابن خلدون الذات الممزقة الجريحة في علاقتها بما كان يبرر وجودها؛ أي بتاريخها الذاتي، التاريخ الذي يذكره صاحب [التعريف] هو تاريخ ابن خلدون، أو كما رآه وعاشه، وليس شيئاً آخر. نفس الحوادث التي رواها ابن خلدون نجدها مروية بطرق مختلفة عند غيره. من هنا يصبح [التعريف] سيرة ذاتية بكل معانيها، وليس التاريخ إلا مطية لرواية الجراحات الأندلسية أو فترة المماليك عندما عُيِّن قاضياً في القاهرة.