كان محمود الكُروي قريبا من فضاء اشتغالي في النقد والأدب، استنادا إلى ثقافته التي لا تعرف الثبات، والتحجّر، وكنت قريبا من تخصصه أيضا، فأنا أعرف بحكم دراستي للتيّارات السياسية الحديثة أن للسياسة أثرا واضحا في تأريخ الأدب العربي، ولاسيّما في الأدب العراقي الحديث، الذي انفتح على التيارات الفكريّة الجديدة، بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908، ولمّا يزل منفتحا بشعره، ونثرة على الحياة السياسية العربية، محرضا، ومنتقدا، ورافضا لأغلب سياقاتها.
شهادتي في محمود لن يجرح بها أحد؛ لأنها شهادة إنسان قريب من إنسان معيارها الصدق، والمحبّة المتبادلة، ولم تكن العلاقة بيننا مبنيّة على مصلحة ما، أو سلوك ما، بل كانت نداء لصوت جميل جمع بيننا، ووحّد رؤانا العامة، في شكل يصلح قالبا مرنا لصداقة تقترب من أجواء الأخوّة، وتتداخل معها، ممزوجة بإعجاب مشترك لنتاجاتنا الفكرية، وجهودنا التي عَبَرَت الحدود في اتجاه الوطن الكبير، في ظلّ أزمات الإنسانية المعاصرة.
اقترنت جهود محمود الكُروي الأكاديمية في التدريس، والتأليف، والإشراف، واقتراح عنوانات ليست بالقليلة لرسائل وأطاريح، في الجامعات العراقية موضوعاتها السياسة في البلاد المغاربية، فضلا عن تأريخها المعاصر، وكان على رأس كثير من لجان المناقشات الخاصة بالرسائل والأطاريح، ولاسيما تلك التي اتخذت من البلاد المغاربيّة موضوعا لها، لعلّ اقتران جهود الكُروي بالواقع السياسي والثقافي والاجتماعي المغاربي كان بسببين:
الأول: معايشة الكُروي الواقع المغاربي من خلال وجوده في (المغرب) إبّان الثمانينيات من القرن المنصرم معاونا لمدير المركز الثقافي العراقي في الرباط، وانفتاحه هناك على الحياة الثقافية والسياسية المغاربية، وعقد صداقات متينة مع جمع من المغاربة أصحاب الموقع المتقدم في الأدب والسياسة والفكر والإعلام، ومن المغرب انطلق محمود مراقبا ومؤلّفا لأحداث مهمة تعلّقت بالجزائر وتونس وموريتانيا. وفي المغرب لم يكن قريبا من السلطة على حساب المعارضة المغربية، إنما كان قريبا من الأطراف كلّها؛ ولهذا حظي باحترام الجميع، فما يهمّ الكروي الأرض المغاربية، وتأريخها من ثبات وديمومة يريدها للجميع، وهذا الذي جعله محبوبا من الجميع.
الآخر: ثقافته الخاصة التي جعل قسما منها خاصا بتأريخ البلاد المغاربية بجغرافيّتها الواسعة، وتأريخها العريق، وهي ثقافة تتجاوز قشور الوعي الأولي إلى إدراك اللب للوقوف على جوهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية. وكان محمود فضلا عما ذكر أستاذا جامعيّا شغل موقعا مرموقا في البحث والتدريس والإشراف، وعندي أن الأستاذ الجامعي ليس موظفا تقليديّا يحمل حقيبة دالة على مهنته وحسب، إنّما هو قارئ أولاً ومؤلّف ثانيا، ومشارك في الحوارات والنقاشات ثالثا، ومنتج لخطاب دال على موقعة، وتلك مزايا محمود في ما لمسته فيه، فضلا عن خصاله الأخرى المتمثلة في تواضعه، وانفتاحه على الجميع، وتجاوزه لعقد الإشكال الحياتي الذي يتعلّق بالدين والمذهب واللغة، فما يهمّه من الإنسان الصدق ناشدا العيش المشترك، والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني.
لقد سدّت كتاباته الخاصّة بالمغرب العربي ثغرات كبيرة في وعينا المعاصر في العراق؛ بسبب قلّة ما كتبه العراقيون عن البلاد المغاربيّة، أقول قلّة، وفي ذهني أن ثمّة من كتب، لكن بأوقات مختلفة.
وهو قارئٌ نهمٌ ليس في اختصاصه حسب، إنّما في اختصاصات متشعبة أخرى مثل؛ الأدب بمختلف أشكاله، والعلوم المختلفة؛ ولهذا صار صاحب سؤال، وصارت كتاباته جميعا تصبّ في تقوية الذاكرة، وتعمل على شحذها بالجديد والمفيد، فمخزونه الثقافيّ كان الوجه الآخر الذي أفضى به لأن يكون مؤثّرا في محاضراته، وحواراته مع الآخرين، فضلا عن كتاباته. هناك مسألة أخرى تحسب له؛ تلك هي عضويته في كثير من اللجان، والهيئات الاستشاريّة للمجلات المحكمة، وبعض المنظمات الإنسانيّة، والاتحادات الثقافيّة، فضلا عن مشاركاته العديدة في المؤتمرات العلمية النوعيّة داخل العراق وخارجه، ثمّ إنه صاحب خطاب مؤثّر في بعض البلدان التي عاش فيها، وكتب عنها كما هو الحال في المغرب، وموريتانيا فقد كتب مثلا عن ظاهرة تكرار الانقلابات في موريتانيا، وأثرها السلبي في الحياة السياسية والاجتماعية، وحين اطّلع مجلس النواب في نواكشوط على نصّ دراسته ضمّنها قراراته السياسية، وعمل على الأخذ بها، وهذا دليل على تفاعل الفكر السياسي للكروي مع واقع الحياة في موريتانيا.
لقد سدّت كتاباته الخاصّة بالمغرب العربي ثغرات كبيرة في وعينا المعاصر في العراق؛ بسبب قلّة ما كتبه العراقيون عن البلاد المغاربيّة، أقول قلّة، وفي ذهني أن ثمّة من كتب، لكن بأوقات مختلفة، لكنّ كتابات محمود صارت شاهدا على عنايته الخاصة بتلك البلاد، ولاسيّما إبان السبعينيات، وما بعدها، وأذكر أنني زرت الجزائر في شتاء 2019 مشتركا في ملتقى (عبد الحميد بن هدوكة) في مدينة برج بوعريريج، وفيها كان السؤال عن محمود على شفاه أكثر من أستاذ، فضلا عن أن أستاذة معروفة هناك هي الدكتورة زهيرة بولفوس أستاذة النقد الحديث في جامعة الأخوين منتوري: ولاية قسنطينة حمّلتني أمانة السلام إليه، وأعدادا متفرقة من جريدة «الوسط» الجزائريّة التي تصدر في العاصمة، كان قد نشر فيها مقالات سياسيّة عن عبد الحميد بن باديس (تـ 16 إبريل/نيسان 1940) فضلا عن مقالات عن الغزو الثقافي الفرنسي للجزائر وتداعياته الاجتماعية، والثقافية.
إن الخطاب الفكري الخاص بمحمود؛ ذلك الذي اطلعت عليه يشير بدقة إلى ثقافته الرصينة، وانحيازه إلى فضاء الديمقراطيّة، وعمله الدؤوب لفتح مغاليق السياسة في اتجاه المجتمع، فهو صاحب خطاب معتدل، ولاسيّما ذلك الخاص بالدين في ظلّ ما أصاب قسما من الخطاب الديني من تشنّج أخذ به نحو التكتّل المذهبي الحارق لأهله قبل الآخرين.
بإيجاز إن علاقتي بمحمود الكُروي قادتني إلى الدخول في آفاق تفكيره الثقافي والسياسي والاجتماعي؛ ولهذا كان الحوار معه يمتد طويلا بلا تقاطعات، أو وقفات تنذر بوجود إشكال، نعم كنا وما زلنا نختلفُ في تقويم بعض الرؤى، لكنّ الاختلاف بيننا لم يفسد ودّا، بل عمّق إحساسا بضرورة نماء الحوار، وتبادل الأفكار، والعودة إلى التواصل، فهو محطّة الأمان التي ترسو عندها سفينة الصداقة التي ربطتني بهذا الإنسان النبيل الشغوف بالإنسانيّة جمعاء، نعم الاختلاف بيننا ليس خلافا مرّا مسوّرا بشهود الزور، بل هو في النهاية وجهة نظر تتّصل ببوصلة الحياة التي تشير إلى جمال الصداقة وعمق أحوالها.
أكاديمي وناقد من العراق
مقالة رائعة بحق البروفيسور محمود صالح الكروي والذي يستحقها بجدارة. واتشرف بكوني احد الطلاب الذين درسوا على يديه الكريمتين في مرحلة الماجستير مادة المغرب العربي. تحياتنا ومحبتنا له وللكاتب المحترم.
ربي يحفظك ويخليك ❤️ جدوو الغالي
الاستاذ الدكتور محمود الكروي قامة من قامات العراق الثقافية والاكاديمية واعتداله وتواضعه ومحبته للناس تجعلنا ننقاد لروحه الطيبة ونتاثر بافكاره وآرائه ويستحق هذا الثناء من الكاتب وانا متاكد من كتب هذا المقال عن الكبار فهو كبير ايضا فالف تحية الى استاذي الكبير الكروي والى كاتب المقال المحترم.
*مقالة روعة ويستحقها الدكتور الكروي الكبير فالف تحية حب واجلال لك استاذنا الفاضل والف شكر للكاتب المحترم *
اصالة في الرأي وعمق في التفكير ورصانة في المنطق
تلك بعض خصائص الدكتور محمود الكروي وهذا ما لمسته منه رغم المدة القصيرة لمصاحبته مما جعلني انشد اليه معداً اياه صديقا رائعا
تحياتي الدكتور فاضل عبود التميمي على هذا النص الجميل بحق الدكتور محمود الكروي