صيف 1976، صوت جديد ظهر في وهران. صوت مُراهق لم يتعد السادسة عشرة من عمره، يُدعى خالد حاج إبراهيم، سوف يسمي نفسه «الشاب خالد» ويصدر أسطوانة (78 لفة) تضمنت أغنيتين فقط، إحداهما سوف تطوف البلاد، عنوانها «طريق الليسيه». من يومها سوف تبدأ مسيرة كينغ الراي، على الرغم من أنه سجل ظهوره الأول بشكل غير شرعي، فالقانون كان يفرض على القُصر استظهار إذن أبوي، قبل طرح عملهم في السوق، ومالك شركة الإنتاج التي سجلت الأغنيتين وإن نشر صورة المغني على الجاكيت، فقد أشاع بين الألسنة أنه شاب تجاوز العشرين. حصل تواطؤ بين خالد والمنتج، والمغني لم ينل ديناراً واحداً عن عمله، بل هدفه من ذلك التسجيل أن يعرف الناس اسمه فيحظى بدعوات إلى الغناء في حفلات الزفاف وينال منها بضعة دنانير.
لقد فشل ذلك المراهق في دراسته حينذاك متشبثاً بحلم النجاح في الموسيقي. بدأ مغنيا غير شرعي ـ في نظر القانون ـ وانتهى به المطاف إلى أشهر المغنين في بلاده وخارجها. سجل إذن «طريق الليسيه» فكانت بمثابة بطاقة تعريف له. وفي 1999 بعدما استقر في فرنسا أصدر ألبوم «كنزة» كناية عن اسم ابنته البكر وضمنه مرة أخرى «طريق الليسيه» فالاحتفاء بابنته الأولى يستحق ـ في رأيه ـ أن يرتبط بإعادة أغنيته الأولى. ما يربو عن خمسين سنة مرت على صدور تلك الأغنية، للمرة الأولى، ففضل الشاب خالد أن يجعلها فاتحة ألبومه الأخير، الذي صدر قبل أسبوع. حين سجل أول ألبوم محترف له، عام 1992، في استديو باركلاي، عنونه (خالد) وألبومه الأخير أيضاً جاء بالعنوان نفسه، كما لو أنها تحية وداع للراي! بين الألبومين ثلاثون عاماً. ثلاثة عقود قدم فيها ملك الراي ما عجز عليه منافسوه، وبات من حقه أن يفكر في التقاعد.
الموسيقى الرقمية بديلاً عن الأوركسترا
في ألبومه الأخير، الذي سجله بالتعاون مع دي. جي رودج، سوف يتخلى الشاب خالد عن زملائه القدامى، عن الملحن مصطفى قادة مثلاً، الذي رافقه في ألبوماته السابقة، فعدا دي. جي سنايك، الذي أعاد توزيع أغنية (طريق الليسيه) لم يتضمن العمل أي شريك جزائري آخر في التلحين، فالأغاني العشرة كلها جاءت في موسيقى رقمية، بدلا عن الأوركسترا التي كانت دائماً تُرافقه، كما لم يبادر خالد، كما عادته في السابق، إلى حمل الأكورديون أو العزف على السانتيسيزور، مكتفياً فقط بمزج صوته مع ألحان دي. جي رودج، كما أنه لم يهتم أيضاً بالكلمات، لأن ثماني أغنيات من بين عشر أغنيات جاءت بشكل ديوهات، من بينها ديوهات قديمة (مثل أغنية حب الناس) التي جمعته قبل ربع قرن بكارلوس سانتانا.
من خصوصيات الشاب خالد، منذ أن أرسى تجربته الفنية مطلع تسعينيات القرن الماضي، أنه يتكيف مع تحولات الزمن الذي يحيا فيه. يدرك أن الراي ليس فقط التشبث بإرث الأولين، بل هو أيضاً المقدرة على التحول والاندماج مع الظواهر الطارئة.
وعلى خلاف الألبومات الأخرى، لم يصور فيديو كليب، بل جاء الألبوم صوتياً فقط، رغم أن المغني ذاته هلل وبشّر بالألبوم منذ خمس سنوات، وأنه تأخر عشر سنوات عقب صدور ألبومه السابق. لم يعد الشاب خالد كما في السابق، ينتج أعماله مع كبريات شركات الإنتاج (بعدما هجر شركة أنيفرسال) فهو نفسه ضحية تحولات الحال، يعلم أن القرصنة قد صارت موضة، ولا يمكن المراهنة على ألبومات مكلفة، من أجل جني أرباح من وراء المبيعات، بل المهم حضور المغني، بغض النظر عن الوسيط الذي يصدر عليه أعماله، وذلك ما أكد عليه في ألبومه الأخير، الذي وإن كنا نعلم من غنى ومن لحن فإننا لا نعلم من كتب الكلمات، ما يؤشر إلى أن المغني نفسه تكفل بكتابة الأغاني كلها (بشكل عشوائي غالباً) فجاءت متفاوتة في ما بينها.
ما بعد الألبوم
بطبيعة الحال، لم يكن ألبوم الشاب خالد الأخير ليلقى إجماعاً في الجزائر، فقد جاء على خلاف ما تعود عليه جمهوره، لا مغامرة حب حارقة ولا قصص ولع، لا كلمات أغنيات في وزن واحد من أعلام الغناء في الراي. فبينما يصنف الناس خالد في مصاف المغنين العالميين، فهم يرفضون أن يغني لغير الجزائريين. لا أحد يود أن يتقبل أن هذا الألبوم الأخير ليس موجهاً ـ بالدرجة الأولى ـ إلى مستمع من الجزائر، وليس موجهاً أيضاً إلى جمهور المغني القديم.
من خصوصيات الشاب خالد، منذ أن أرسى تجربته الفنية مطلع تسعينيات القرن الماضي، أنه يتكيف مع تحولات الزمن الذي يحيا فيه. يدرك أن الراي ليس فقط التشبث بإرث الأولين، بل هو أيضاً المقدرة على التحول والاندماج مع الظواهر الطارئة. فقبل عشر سنوات، لم تكن الموسيقى الرقمية أكثر من مجازفة هامشية، أقرب إلى الأندرغراوند، لكنها اليوم تكاد تصير اللون الفني الأكثر هيمنة، ففي السينما مثلما هو الحال في ومضات الإشهار، أو في الحفلات العمومية، الناس ولاسيما الجيل الجديد من المستمعين، لا يطلب سوى الموسيقى الرقمية، موسيقى خفيفة راقصة، وذات حجم زمني قصير. إنها موسيقى الفرجة بامتياز، لا تعنيها الكلمات المرفقة بها، أو أي تنوع في أصوات الآلات الفنية، ولم يخف ذلك عن خالد. لأن الألبوم الأخير سيكون فاتحة جولة فنية، بعد غياب سنين، ويعلم أن الجولات الفنية والمهرجانات لن تكون في الجزائر (حيث ميزانية الثقافة في انخفاض، وحيث لا يوجد فعلاً استثمار ثقافي للخواص) يعلم أنه سوف يتوجه إلى الخارج، إلى أوربا بالأساس، وهذا واحد من أسباب اختياره هذه الموسيقى في الألبوم، كما لم ينس أيضاً تضمنيه أغنية بالفرنسية، موجهة للفرنسيين. إن منطق السوق هو الذي يحتم على مغنٍ مثل الشاب خالد (62 سنة) قبول التغيير، بل حتميته.
الألبوم الأخير وإن جاء في قطيعة مع أعماله السابقة، كما لو أنه تحية وداع للراي القديم، فهو يفتح باباً جديداً لصاحبه، الذي تجاوز سن أن يطلق عليه (الشاب) ويود أن يخبرنا أن بوسعه كسب جمهور جديد، رغم تقدمه في العمر، وأن بوسعه استقطاب الآلاف من الشباب، وذلك ما سوف نتأكد من صحته أو عدمها في حفلاته المقبلة.
روائي جزائري
Cheb khaled is the best and will be the best amongst all generations.