■ تبقى الكتابة الشعرية حاضرة في لذتها وتوهجها، عندما تخترق الحواجز اللامرئية، وتصل الإنسان برابط خفي بينه وبين جوهر الأشياء من حوله، كما أنها تستمد قوتها وحضورها المتجدد من ذلك الغموض الشفيف، الذي ينساب ساحراً في أعماق النفس البشرية. وما يرافق الشعر من دهشة، وبناء عوالم أخرى موازية على أنقاض العالم المتهاوي. هناك تساؤلات أيضا تبقى مطروحة في الشعر عن ماهية الإنسان والوجود، وعن إدراكه المنعكس تجاه العالم.
يرى أصحاب المدرسة الرمزية في الشعر، أن اللغة وعاء للرموز لفهم العالم الخارجي باطنيا عن طريق الحدس، أو الإيحاء في إثارة الصور الذهنية عند الإنسان. ويرى السيريالون أن مصدر الفن والتعبير الإبداعي يكمن في أعماق اللاوعي، أو اللاشعور مستندين بذلك إلى نظرية فرويد في اللاشعور، لذا ركزت المدرسة السيريالية على الكلمات واللغة، وما يرافقها من هذيانات ورموز حلمية، وضربت عرض الحائط الفكرة أو المضمون، واستندت إلى الخيال العميق ذي الطابع الأسطوري، مع التمرد على كافة القوانين العقلية والمثل السائدة.
«وسيلة أخرى للعدم» مجموعة شعرية صادرة حديثا ً عن دار ماشكي للطباعة والنشر في العراق للشاعرة أمل البابلي، وهي المجموعة الثانية للشاعرة بعد مجموعة «لا أتقن الاعتراف» (2016 ـ بغداد).
من خلال العنوان الذي حمل انزياحا عن المألوف، نستدل على أن الشاعرة تعطي دفقا من الحياة والحركة لمفهوم العدم وجموده، وتسعى إليه بإحدى الوسائل المتاحة، كما يسعى البشر العاديون إلى وسائل السعادة ومباهجها. جاءت المجموعة بـ105 صفحات من القطع المتوسط، مع غلاف أنيق يعبر عن متن الكتاب. تضمنت مجموعة من القصائد المنوعة بين اليومي المعاش، والغيبي الإسطوري، وجاءت بعض النصوص بمثابة صرخة غضب أو تمرد مكبوت في نفس الشاعرة، وكأنها تعمدت أن تضع القارئ بين سكاكين المتاهة. ففي نصوص أمل البابلي لا يمكننا أن نخرج بفكرة أو بوعي مستفز، يلقي بنا إلى الضفة الأخرى، بل نبقى مستمتعين بالمتاهة ورحلة العذاب الطويلة داخل النصوص، وما تمنحنا إياه من تدفق لغوي واستعارات، أضف إلى ذلك قدرة الشاعرة على البناء السردي والحكائي، وما يرافقه من حركية المشهد والحدث، لكن من دون الوصول إلى نقطة محددة. لم تستند الشاعرة إلى أسس معرفية، أو دلالات ذات مضمون فلسفي، أو فكري، بل أطلقت العنان لمخيلتها الفطرية، وألغت العقل ودوره في تنظيم اللغة وصقلها شعريا، كما يراها البعض من تكثيف وإيجاز، إلخ.
هذا التدفق اللغوي الهائل وما رافقه من استعارات غريبة، أعطى للشاعرة حدسا جميلا في تصوير الأشياء والأحاسيس بصدق وعفوية رمزية. لم تهتم البابلي كثيرا بعنصري المفارقة والدهشة، لكنها وردت مذهلة في بعض النصوص، فهي استعملت الجملة الطويلة كثيرا في نصوصها، لكن النصوص ذات الجمل القصيرة والمكثفة، أحسب أنها كانت أكثر تأثيرا في ذهن المتلقي ووعيه.
في قصيدة «من بريد ما بعد النوم» تقول أمل البابلي في مقطع 4 من القصيدة المتسلسلة:
تحت وسادتي أضع معطفي الأسود
لأسخر من الريح..
حين أصعد للسماء
وأتوسد غيمة نوم
ليتوقف الليل عن الدوران
في هذا المقطع القصير والمكثف، نرى أن الشاعرة اعتمدت على عناصر متجانسة ومتناقضة في علاقتها مع الأشياء والموجودات، فهي لم تعد تحتاج الأجنحة أو الريح لتحلق أو تصعد للسماء، ففي معطفها الأسود يتوقف الليل عن الدوران، ويبقى العالم نائما تحت هذه الظلمة الأبدية، وكأن الليل صار محطة عذاب كبير للشاعرة، فصارت تحلم بالتحرر والخلاص الأبدي.
في الثانية بعد الظلمة… وفي خزانة المطبخ أفتش عن سكين
أخرجها من أدراجها وبيدي أطعن سواد وحدتي الملعونة». (من القصيدة نفسها)
هنا يكمن الشعر، أو بالأحرى توحش الشعر وهو يفترس كل شيء من حوله، فمن خلال جملة هادئة وبسيطة تصف لنا الشاعرة مشهدا في منتصف الليل في مطبخ المنزل
لتفاجئنا بطعن السواد، وأي سواد، إنه سواد الألم والوحدة، فالشاعرة جعلت من السواد كائنا ً متحركا ًبروح شريرة، وأعطت لونا للكلمات والأحاسيس المنثالة من خباياها. وهنا يستحضرني بيت شعر للشاعر العباسي ابن بابك، عندما ينفخ الروح في السواد
«ولو أن الصباح وشى بظلي.. خلقت لكل شارقة سوادا»
في كثير من النصوص تستسلم أمل البابلي للوحي اللغوي، الذي يهبط على مخيلتها وأفكارها على هيئة صور مبعثرة، فهي لا تهتم بالمعنى والمضمون، بل تلقي هذه الحمولة الجاثمة على عقلها، لتجعلك مستلذا بالحيرة والبحث عن معنى…
كل المطارات تضرب مدارجها..
ثم تدحرجها في عنق زجاجة مملوءة بالحسرات
مثل كآبة الصوت في الصمت القتيل
أو اختناق حنجرة غريبة
كل الشعر يحرقني بحلم مبتور
ثم أنطفئ على خرم إبرة
وأسقط سهوا في نبوءة الأغلاك
ثم تعود في النص نفسه لتطلق صرختها في وجه العالم، وتخدش بأظافرالقصيدة ظلام الوجع.
كل الضحايا تترك تأريخها
إلا أنا طمرت صرختي وجعا ً
وحملت رايات حزني
لأكتشف الخطأ..
كل الذنوب خدشت النوافذ
فلا أحد يعلن البراءة
ويقول إن الحب ذنب لا يغتفر
أو إنك الطهر الأبدي لخطيئتي
والشمس تفر هاربة
تستدرك العيون حين تغرب
كل السحب تتسارع..
وأغصان الزيتون تنحني..
ونار المغيب تحرق رؤوس المداخن
لا شيء سوى هذه الحقول..
لا شيء سوى هذا العدم
من الممكن أن تثبت لنا مجموعة «وسيلة أخرى للعدم»، أن الشعر ليس بالضرورة أن يتشكل ضمن هندسة قصيدة النثر وحدها، ونظريات الحداثة في بناء النص وشروط سوزان برنار، فالبئر اللغوية التي نهلت منها البابلي انفتحت على جنس هجين من الأدب، استطاع أن يكشف لنا عالما من العذاب والعزلة والألم، مع أسئلة وجودية حادة وبريئة في الوقت ذاته، تتفق مع عبثية الحياة وتناقضاتها، فنجحت في رسم دستوبيا للعالم الجميل، وبشّرت بنبوءة جديدة للعدم.
ثم كيف يعود الموتى لجحيم الحياة؟
فهناك جثة هامدة تدور في عينيها رياح العدم العظيم،
تصر صريراً مدويا، وتعبث برماد الأزمنة الغابرة.
يدفعنا القلق المتكرر في النصوص، إلى فكرة ما وراء الموت والبصمة التي يمكن أن يتركها الإنسان للأجيال القادمة، فصار الوعي بالزمن والمستقبل يرافق الشاعرة كثيرا، لترى حياتها مجرد ورقة بيضاء يكتب فوقها عمرها القصير، وذهبت بحدسها الثاقب
إلى ما وراء الستار في عالمنا المحسوس، وأعملت مخيلتها الواسعة لنرى مشهدا ً كهذا..
في ليالي الشتاء الطويلة
يرى الموتى صورهم.. حين تقع من إطاراتها المعلقة على الجدران
كأن شيئا لا بشريا قد تبقى بعد رحيلهم
رسائلهم توظب في صناديق ثيابهم..
في تلك الليالي.. ربما يحزنون
أو يبتسمون كالعرائس الخجلات
بعدها يقولون وداعا بطريقة غريبة
تشبه زمجرة الريح خلف النوافذ..
أو طرقا ً خفيفا على الباب في الظلام الدامس.
ويظل حلم استعادة البراءة المفقودة في الشعر بالنسبة للشاعرة حلما بعيداً، وضبابيا، وكأنها تعتزم الرحيل إلى عالم آخر بلا ضجيج ولا صخب، ثم تولد مرة أخرى من جديد، مخلفة وراءها محطات وذكريات ورسائل غامضة لن يقرؤها إلا غرباء عابرون.
بعد مغيب الضياء
لن أقول وداعا لنهارات القصيدة
وهي ترسم لوحة الأفق
ما زالت تقرأ رسائله الضائعة كل يوم
على مائدة الغياب
رسمت عينيها على شرشف الطاولة
وملأتها بالدموع والبحار والسفن
حلمت بالغرق..
وسافرت بعيدا
دون حقائب
دون رسائل
٭ كاتب عراقي
قراءة ماتعة وتقديم أضاء بفكرة عن مساحة شاسعة من المجموعة
التوفيق لكما ايها المبدعان
أمل البابلي /آوس حسين