اللغة ليست أداة للتواصل تجسر الهوة بين الذات والآخر فحسب، بل هي إضافة إلى تلك الوظيفة التواصلية، مادةُ لخلق العوالم وقهر مشروطيات الواقع الذي يعاني فيه المرءُ التنميط والأُحادية. ولا يكون رهان الأديب إلا على اللغة للتعبير عن العوالم المتعددة، بوصفها امتداداً للحياة بأشكالها المتنوعة. وفي اللغة الشعرية تتضاعفُ الشحنة التعبيرية بفعل تحولها إلى عنصر أساسي في يوتوبيا الشاعر، الذي يتسامي على رثاثات الواقع.
حول راهن الشعر ومستويات المتلقي للنصـــوص الشعـــرية، كان لقاء مع الشــــاعرة والمترجمة المغربية رجاء الطالبي، التي صدر لها مؤخراً ديوان «قرصة على خد الخسارات» إلى جانب نشر ما ترجمته من مختارات للشعر العالمي بعنوان «كتابة الخراب» ورواية «صباح الخير أيها الحزن» لفرانسواز ساغان.
هناك مسلمة أن الوجود أبعد من حواف السماء، ومجهولا أكثر من المجهول، هناك هذا البحث الشاق وهذا الجوار الراسخ لمحاولة فك لغز الذات وفك إبهام الوجود.
■ لنبدأ بما قاله اليوناني إليتيس بأن الشعر يأتي في أوقات الشدة ليشهد على الأسرار والضوء في آن، هل تعتقدين بأن وظيفة الشعر فعلا هي رؤية الضوء في عتمات الذات والوجود؟
□ كل شيء لم يقل، هذا هو ما يمكنني قوله عندما أعود لما كتبته، وأمام آثار الطريق الذي مشيت فيه وما زلت أمشي، هناك تأويلات مجاورة، قراءات متهجية لحبري، هناك ضيق في الرؤى، هناك قرب، مجاورة هناك ابتعاد وإخفاق في استعارة لسان لما يصعب قوله، هل قلت، هل أضأت المعتم فيّ، وفي الوجود، هل نجحت، هل أخفقت، هناك هذا الفقدان للحماسة وللعنفوان، هناك هذه الحشمة، هذا الألم، الذي حاول بعض النقد من إخطاء قوله، مجمعا، مقاربا، مجردا، لم يفعل سوى أن عمّق شساعة الصحراء. هناك مسلمة أن الوجود أبعد من حواف السماء، ومجهولا أكثر من المجهول، هناك هذا البحث الشاق وهذا الجوار الراسخ لمحاولة فك لغز الذات وفك إبهام الوجود، هناك هذه الحافات المعشوقة والمغوية التي تغري بالمخاطرة والتهلكة، وهذا الإدمان للرمي باليقينيات في بحر الهلاك، لأنها وحدها المخاطرة تمنح معنى وتضيء المعتم المفتقد للوجود، خاطر لتوجد ولتضيء المعتم فيك، المجهول خاطر ليمنحك الوجود إمكاناته العديدة لتكون في التعدد والتجدد، من السهل تحبير هذه الجملة، هل أكتب لأمنح ضوءا لعتمات الذات والوجود؟ كم من الدم نزفته في الطريق لتضيء المعتم؟ كم اختبرت من مهاو وامتحانات صعبة لتكتشف ضوءا يمنحه لك الطريق، المعرفة لا تأتي من السهولة، بل من الصعوبة ومن الاختيارات العسيرة، ما دمت لا يغويني السهل المستعد لدحرجة أثوابه والكشف عما يستبطنه. هناك هذه القوة التي تحركك، عنيدة، رغم ما يهددها من كوارث، من تهاوي أشياء عديدة من حولها، على الرغم من الموتى الذين فقدتهم والذين كانوا دعامة وسندا، على الرغم من إحساسي أن موتاي ما زالوا يصاحبون خطاي. ليست القصيدة سوى هذه المجاورة الحثيثة لما تعيشه وما تختبره في كل الأوقات، كل ما تعيشه هو مادة لقصيدتك لا شيء يضيع، كل ما تراه وتختبره هو محك واختبار هل ستنجح لتحويل وجودك إلى كلمات مضيئة إلى كلمات تنزع من العتمة الكلمات التي تضيئها؟
ما يبعث على النفور هو الشعر السياسي وشعر المنابر الإعلامية، لأنه الشعر الأبعد عن الإنسان وهمومـــه وأسئلته وشــــعر القضايا المبتزة هموم الإنسان والراكبة على أوجاعه.
■ أصبح الشعر بعيدا مما هو متبادل في المنابر السياسية والإعلامية وتنعكس في النص الشعري الهموم الذاتية أكثر، هل يفسر هذا الطابع الغالب في الشعر الحديث حالة عزوف القراء عن متابعة الشعر؟
□ أظن أن ما يبعث على النفور هو الشعر السياسي وشعر المنابر الإعلامية، لأنه الشعر الأبعد عن الإنسان وهمومـــه وأسئلته وشــــعر القضايا المبتزة هموم الإنسان والراكبة على أوجاعه. مـــتى كان الشعر مدمنا على الضجيج المجاني وعلى الأضواء المزيفة، وعلى الوجوه الصفيقة التي لا تستحي من جشعها وصفاقتها. إذا كان هناك قارئ عـــازف عن قراءة الشعر ربما لأن هذا الأخير يكتب بلغة تنزاح عن لغة اليومي، ولو أن هذا اليومي هو الموضوع الأثير لشعراء اليوم، لكنها قصيدة تملك سحر تحويل هذا اليومي إلى شعر، ربما لأن القارئ لا يفهم ما يكتب ولا يحس به ولا يصله، قارئ له اختيارات وميولات أخرى غير الجلوس إلى قصيدة ومحاولة فهم ما تقوله، هو في الأخير ربما قارئ كسول لا يريد أن يبذل مجهودا.
■ قصائد ديوانك الصادر مؤخرا بعنوان «قرصة على خد الخسارات» تعالج ثيمات متنوعة من التماهي مع الطبيعة، والحنين إلى الطفولة والموت، لكن ما هو أساسي هو التعبير عن الرغبة للعزلة كيف تفهمين العلاقة بين العزلة والإبداع؟
□ قبل أن أجيب عن علاقة العزلة بالإبداع أريد فقط الوقوف في سؤالك عن هذه العلاقة بالطبيعة في ديواني، التي يتم اختزالها وتحجيمها، بل طمسها في أحيان كثيرة. كيف أفسر ذهابي المستمر وبحثي الدؤوب للتواجد في قلب الطبيعة في أغلب الأوقات، ما هذا الذهاب الذي لا يتعب، هذا الركض كلما سنحت الفرصة للوقوف أمام البحر أو التغلغل في الغابة قريبا من التربة وحفيف الأشجار والظلال، عما أبحث هناك، عماذا يبحث وقوفي أو مشيي الحثيث وأنا أضرب الخطى منصتة لما يمنحني هذا الـ»هنا»، ولما يجيش هناك في الداخل من قلق وتشوش وتقلب وحفيف وهمس ووجع يخطف الكلام ويلجم، إنه ذلك العبور الصامت المأهول، إنصات للعناصر تحاور بعضها بعضا بالوشوشة ذاتها، هل هو الجسد الذي يشق طريقه في الرمل متهجيا آثاره متهجيا صمته متهجيا قلقا يبطش به، أو محاولا فهم ما يحدث، مستعينا بما يصله أو يعبر شاشته من هدير الموج وشساعة الأزرق ووشوشات الرمال اللامتناهية، هل هو خطو نسيان؟ هل هو خطو عبور وصيرورة، خطو انبجاس الأسئلة، واكتشاف نقاط الوجود قلب العبور المرعب والمذهل الذي تخترقه. هذا الذهاب هناك هو ما يستدعي الحاجة للعزلة بعيدا عن صخب المدينة وعلاقاتها المزيفة، العزلة كفضاء للممكنات توقظ حس من يعشق الفضاء الحر لما تمنحه لك عزلتك من اختبار قدرتك على أن تقف وحيدا، بدون الحاجة لهم أولا، تغــــدي قوة استقلاليتك واكتفــائك الذاتي وفي الآن نفسه تبني موطنك وتربتك الشخصية، توطد علاقتــــك بلغتك بأســـئلتك وبطريقك الذي لا تكف تحرثه بخطاك القلقــــة المشـــوشة الراقصة على اليقـــين والمدمـــرة لكل الســفن، وحـــده هذا الأمام وذلك الطريق هو ما يغذي فكرك ورؤاك وأسئلتك، ما يطرد عنك وهم الطمأنينة ويجعلك راعية لأسئلتك تربينها على العصف تربينها على عدم الاستكانة.
الشعر مسكون بنداءات اللايقين والتشوش، مسكون بمساءلة الوجود والذات مصاحب لشروخات الذات وجروحها وقفزاتها وتحولاتها في الحياة والوجود، تحولات مضاءة بالشعر، بعتماته ومهاويه.
■ لا يغيب الاهتمام بالاشتغال على مفهوم الشعر والعلاقة بين الذات المبدعة والرهان على الشعر، كما تشيرين إلى الموضوع نفسه في تقديمك لترجمة القصائد المختارة لدى الشعراء العالميين، إلى أي مدى الوعي بمفهوم الشعر ضروري لدى المبدع؟
□ يقول رونيه شار «ليست أفعال الشاعر، سوى نتائج ألغاز الشعر»، هناك حالة إبداعية، وطبيعة شعرية تجعل من الانخراط في الفعل عبر توقعه وحدسه سلفا تعميقا لمعرفته عبر الكتابة الشعرية، ولا يمكن أن نخترق الماهية المفترضة للفعل ونفكك معناه إذا لم نخترق اللغة، الشعر مسكون بنداءات اللايقين والتشوش، مسكون بمساءلة الوجود والذات مصاحب لشروخات الذات وجروحها وقفزاتها وتحولاتها في الحياة والوجود، تحولات مضاءة بالشعر، بعتماته ومهاويه. إن الحيز الذي يعمل فيه الشعر هو اللغة، فنحن نقارب جوهر الشعر انطلاقا من جوهر اللغة، فالشعر كما يقول هايدغر يملك تسمية مؤسسة للوجود ولجوهر كل الأشياء وليس مجرد قول يقال كيفما اتفق، بل القول الذي ينكشف من خلاله كل شيء، أي كل ما نتلفظ به وما نصوغه في لغة التخاطب اليومي. أنت لا تكتب قصيدتك انطلاقا من فراغ، لابد من معرفة تعمق القول الشعري لتضيئه وإلا يكون مجرد تهويم وهذيان وثرثرة. لذلك لا يمكن أن تتجرد القصيدة من وعي المبدع ومعرفته، لأنك تكتب انطلاقا من هذا الوعي، أحيانا تسبق القصيدة هذا الوعي وتتجاوزه لتؤسس لوعي جديد خاص بها.
■ إضافة إلى خمس مجموعات شعرية لديك دراسات وترجمات لنصوص روائية، ومختارات شعرية كيف تؤثر هذه الاهتمامات على نصوصك الإبداعية؟ هل تلعب ذائقتك الشعرية دورا في ما تترجمينه؟
□ المبدع نتاج لما يقرؤه، فكل الكتب التي قرأتها والتي جاورتك لسنوات في مسار حياتك لها تأثير على اختياراتك وعلى وجودك وعلى كتابتك وعلى الأسئلة التي تحرك وجودك أيضا، فالطفلة التي كانت تعيش عبر القصص التي كانت مغرمة بقراءتها حد الانقطاع في ركن والغرق في ما تقرؤه، وتلك القارئة التي أدمنت القراءة لمجموعة من الكتاب ارتبطت بأسئلتهم وأفكارهم وجالت المكاتب بحثا عن مؤلفاتهم، تلك القارئة اليوم هي التي شكلت أفكارها وعوالمها وأسئلتها واختياراتها ومخيالها، والتي اعتبرتهم قوتها وسندها في مجتمع لا يرحم الضعف البشري، بل يسارع كي يدوس ويقضي عليه. قراءاتي كانت قوتي التي شكلتها وبها وفيها عشت وأموت وخرجت إلى الوجود كي أخضع لاختباراته وامتحاناته. نكتب إذن في اشتغال وانصهار مع ما قرأناه وأثر فينا، ما كتبته وما سوف أكتبه هو رجع بعيد وإبداع يخضع لمحو تلك الآثار التي تغويه باتباعه، لكن وعيه لا يكف عن محو ما يريد الاستبداد والتحكم فيه. ما ترجمته كان مرتبطا بقراءاتي وبكتاب وشعراء وجدتني أرتبط بمنتجهم الإبداعي والفكري، لست بعيدة عن النصوص التي ترجمتها، بل جزء فيّ يجد نفسه فيها ويتمنى لو كان هو من أبدعها، ثم هناك هذه المتعة في منح صوتك للكاتب الذي تترجمه ليتكلم عبرك وعبر لسانك، أن تكون آخر في ترجماتك، تنمحي ليكون العمل الذي تترجمه.
مما جاء عن مفهوم العزلة في إحدى الرسائل الشعرية المطولة لصديق طفولتي غياث المرزوق، ما يلي:
قَالَتْ لَهُ:
«إِنَّ أَجْمَلَ شَيْءٍ عَلى هٰذِهِ الأَرْضِ،
أَنْ تَتَعَلَّمَ فَنَّ الرَّحِيلِ عَنِ الذَّاتِ،
كَيْمَا تُذَوِّتَ ذَاتَكَ في وَاحَةِ الاِنْتِمَاءْ.
وَهٰذَا التَّعَلُّمُ لا يَتَأَقْلَمُ إِلاَّ شَهِيدًا صَهِيدًا،
بِأَتُّونِ عُزْلَتِكَ المُسْبَكِرَّةِ عَنْكَ،
وَعَنْ هَاجِسٍ بِالأُفُولِ سَوَاءً سَوَاءْ».
قَالَ لَهَا:
«إِنَّ العُزْلَةَ رَائِعَةٌ، حَقًّا.
في حَضْرَتِهَا نُرْهِفُ أَسْمَاعَ المَرْئِيِّ إِلَيْنَاْ،
وَإِلى مَا تَنْبِسُ أَفْوَاهُ اللَّامَرْئيِّ بِهِ، أَيْضًا،
مِنْ مَبْنىً أَوْ مَعْنَىْ.
لٰكِنَّكِ تَحْتَاجِينَ إِلى إِنْسٍ لِيَقُولَ مِرَارًا:
إِنَّ العُزْلَةَ رَائِعَةٌ، حَقًّا».
بِالتَّنَاصِّ مَعَ ڤِيرْجِينْيَا وُولْفْ وَأُونُورِيهْ بَالْزَاكْ
/عن الرسالة التاسعة
خطو انبجاس الأسئلة°
كشف الخفايا المذهلة°
صدقت°رجاء الطالبي°
بالقلب أو بالقالب!
بوركت مبدعة سمت°
حقا بفكر صائب
[email protected]
الكاتبةً والشاعرة والمثقفة والمفكرة انت صديقتي