□ لسبب لا أعرفه تخيَّلت أن يكون هذا الحوار الشِّعريّ بيننا وجهاً لوجه، لقاء مع الشَّاعر، في غرفته التي تعمّها فوضى الكتب والذّاكرة، أو في مرسمه حيث رائحة الأصبغة وزيت بذور الكتَّان عابقة في المكان. استبعدت فكرة إحضار كتاب لك على الفور، حيث يبدو أنَّه لا متَّسع لك حتى بين أكوام الكتب التي أصبحت تأخذ مكان كلِّ شيء في بيتك، كيف هي علاقتك بالكتب؟
■ علاقتي مع كل الأشياء تنوس بين قطبين، الجمع والاحتفاظ ولو دون حاجة ودون استعمال لغايات مبهمة من طرف، والنسيان والضياع كنهاية محتمة لأي شيء من طرف ثان. الكتب والاسطوانات والكاسيتات والسيديات واللوحات والألوان التي تيبس وكل ما قضيت حياتي أكدسه فوق الرفوف وفي الأدراج وداخل المخزن وعلى الطاولات…
□ في كتابك (داكن) الذي أنهيته سنة (1989) ونشرته، بعد صعوبات كثيرة، سنة (2014) تقول: «أملك عن الشعر مفهوماً مشوشاً أشعث/وهذه حقيقة أعترف بها/ ولا أدري ماذا يدفعني/للفخر/ بكوني ذلك» تقول عن الشعر أيضاً: «ما كنت أسميه ضياعاً/ أسميه/ الآن منزلاً/ ما كنت أسميه يأساً/ أسميه الآن شعراً». على طريقة ريلكه في كتابه (رسائل إلى شاعر شاب) ما هي الرسالة التي تكتبها إلى نفسك وأنت شاعر شاب لنقل في العشرين أو الثلاثين من عمرك؟
■ استطعت مع الوقت، أن أتوصل إلى صياغة إنشائية صرفة، إلا إنها مناسبة لي، لما كان يدفعني لكتابة الشعر، أو ما كنت أظنه شعراً، وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، أي، من تشرين الأول/أكتوبر /1973 إلى أكتوبر /1974، السنة التي كتبت بها ما جعلني أصدق، وما جعل البعض يصدقون، أني شاعر. وهي إني أكتب لغايتين، الأولى لأنه لدي ما أقوله للآخرين، شيء مختلف وجديد. والثانية، لأن لديّ طريقة مختلفة وجديدة لقول ما أريد قوله. ما أكد لي صحة ذلك، أنه في الفترات التي لا يكون لديّ ما هو جديد ومختلف لأقوله، أو ربما يكون لدي، لكن ما من طريقة مختلفة وجديدة.. لا أكتب.
رسالتي كانت وما زلت لا أعرفها.
□ (لمن العالم؟) نص تصفه بـ«أطول وأسوأ قصيدة في الشعر العربي الحديث». السؤال الذي تبادر إلى ذهني، بعد قولك: «هذا ما أسمية شعراً.. سمه أنت ما شئت».. هو إلى أين يذهب الشعر؟ بعد أن تحول كما تقول إلى «دم لا تقبله الأرض/وعرق ليس يقطر من الجبين فحسب/ بل من فروة الرأس وتحت الإبط وبين الفخذين»؟
■ أقرأ المقاطع التي اقتطفتها من شعري، وكأنها لشاعر آخر. الشاعر الذي يصدف، أحياناً، أن أكونه، أو قولي، أضطر أحياناً أن أكونه! قليل من شعري هو شعر، شعر أقول يمكن الإقرار بأنه كذلك، أغلبه أفخاخ وشراك شعرية، عراضات ومرافعات ضد الشعر. ذلك لأني في الحقيقة، جئت للشعر كعدو للشعر ضارباً بالحائط كل ما كان الآخرون حولي يعتبرونه شعراً. تسللت للشعر كعميل للنثر، همي تحطيمه، وذلك بالحفر حول أساسته، وهدم جدرانه شيئاً فشيئاً، لينهار بعد ذلك سقفه. مبتدئاً عملي في قول: «لا أكتب إلا عما أرى وأسمع» رغبة مني بقتل الخيال. و«علينا أن نبعد الكذب عن الشعر كما نبعده عن الحياة» وذلك رداً على مقولة شهيرة قام عليها الشعر العربي: «أجمل الشعر أكذبه»! بعد هذا أعلنت عدائي للغة: «هناك حرب بين الشعر واللغة» وكان أن أطلقت شعاري: «النثر أفضل طريقة لكتابة الشعر» وكان بقليل من النباهة يمكن أن ينكشف قصدي: «النثر أفضل طريقة لقتل الشعر». لكن ما إن تغولت في الكتابة وصار لي اسم، معروف ومكرس، وينشر لي أي شيء أكتبه، ولو صدرته بذلك التعبير: «أطول وأسوأ نص في الشعر العربي الحديث» حتى وجدتني أتهم الشعر جهاراً: «الشعر معنى عالم لا معنى له» ومن ثم إنه: «توثيق دقيق للأكاذيب». أعترف بكل هذه الجرائم الآن، لأني، في النهاية أو قبلها بقليل، خسرت الحرب، انهزمت! لم ينفعني نكراني ولا تنكري، هزمني الشعر نفسه.
□ تبدو لي نصوصك الشعرية وكأنها نصوص بلا رأس ولا قدمين، بعض النصوص تسبب الغيظ بشكل لا سبيل إلى تبريره، كأن انفصالها عن الرأس ترك لها جنون التحولات والتشظي في فضاء لغة «الواقع فيه أقصى ما يمكن أن يحدث» وفق تعبير الشاعر سركون بولص، وبتر قدميها يجعلنا نرى إلى الأسئلة التي ابتدأتها مراراً عن اللاجدوى والمصير، هل تكترث حين تكتب الشعر بالقارئ؟ هل تتعمد هذا القطع الحاد؟
■ جميل هذا الشكل الذي تبدو لك فيه نصوصي، بلا رأس ولا قدمين! تسوقينه ثم تأتين بسؤال يتضمن بنفسه الجواب عليه، فصاحب شعر كهذا بالتأكيد لا يكترث بقارئه! وتأكيداً على ما أذهب إليه تتابعين بسؤال ثان: «هل تتعمد هذا القطع الحاد؟» وكأنك متأكدة أن هناك قطعاً حاداً بيني وبين قارئي. وهذا في الحقيقة غير صحيح. على الأقل، كنية مسبقة، أو كتصميم، من قبلي، لأنني، خلاف هذا تماماً، أكتب محاولاً إقامة علاقة، عضوية، إن أمكنني، بيني وبين قرائي. فلطالما قلت، مشدداً على حسيتي في الكتابة: «أكون في أسوأ أحوالي عندما أدون ذهنياً». ثم إن أكثر التهم شيوعاً التي ووجهت بها، أني أكتب على نحو بسيط وواضح جداً. يوماً لم أخل بالمعادلة الشعرية التي خلفها لي صديقي الشاعر الراحل محمد سيدة: «عليك أن تعطي الصورة حقها، لا تختصر ما تحتاجه، ولا تزيد ما لا تحتاجه». وهذا ليس أمراً سهلاً، كما قد يظن الكثيرون. أنا نفسي فشلت فيه مراراً. ثم، هناك الكارثة التي أحاقت بي، منذ أن ادلهمت صورة سوريا في نظري، وشعرت بأنه، ليس (لديّ ما أقوله) بل ليس لديّ من أقول له، لهم! أنا الذاتي، الشاعر السعيد، كما لقبني عباس بيضون، خلاف كل الشعراء، ورغم كل شيء، توقفت عن الكتابة كلياً! كنت كعادتي ألتقط طرف خيط القصيدة، إلا إني لا أفعل به شيئاً، أتركه، أرميه. أو أكتب نصف القصيدة، ولا أكمل. أو أكتب قصيدة في دفتر ما، على ورقة ما، ولا أعود إليها، ثم لا أعرف أين كتبتها، ولا أبحث عنها. صدقت أني كنت أكتب ما أكتب، لأجل الآخرين، لأجل عالم أفضل، سوريا أفضل، لأجل التغيير، لأجل الثورة، مثلي مثل الجميع، لأجل أن يغدو السوريون، كل السوريين بلا أدني تفريق، في المستقبل القريب، العاجل، أحراراً وسعداء. كل شعري، وكل رسمي، وكل ما ارتكبت بهما من فظائع، كان، بكل براءة، يكرر ويبشر بهذه الغاية.
□ تتحدث عن نفسك بأنك شاعر رديء، تكتب الشعر للمزاح، تقول أي شيء مهما بدا تافهاً للآخرين، تكتب دون أن تكترث بالمعنى واللغة التي هي أمك! تكثر من السرد وتثرثر، بل إنك تستطيع تحويل الأشياء المهملة وبعض الخردوات إلى شعر، بالمقارنة مع هذه الآراء عن نفسك، أنت تعيش حياة الشعر والكتابة بشكل متواصل منذ خمسة عقود تقريباً، أليس هناك مفارقة بين كاتب يرى في الكتابة شكلاً من أشكال اللعب ويكون لعلاقته بها كل هذا الوقت من الالتزام؟
■ نعم، هناك تناقض صريح، لكن ماذا يعني إن كنت متناقضاً. الشعر، الفن عموماً الميدان الأمثل للتناقضات. لا أريد، وهذا ما قامت تجربتي برمتها عليه، أن أكتب ما يتوقع الآخرون مني، حتى إني أحاول في كل مرة أعد كتاباً جديداً للنشر، من نهاية عقد التسعينيات، بعد صدور كتابي «مزهرية على هيئة قبضة يد» 1997، «الشاي ليس بطيئاً» 2004 عن دار رياض الريس- بيروت، تبعهما «من الصعب أن أبتكر صيفاً» 2008 عن الدار ذاتها، رحت أبدو، ليس فقط شاعراً مكرساً، بل أكاد أكون شاعراً منجزاً، تاماً. الأمر الذي منعني من الاستمرار في الكتابة على نحو كلي. أحتاج دائماً لذلك الشعور بالبدء، الشعور بالاكتشاف، بكتابة ما لا يراه الآخرون شعراً، بل شططاً واعتداء على ما يظنونه الشعر! لدرجة، ربما، لا ليس ربما، بل فعلاً، أني شططت في الكثير من قصائدي، في «سير مشبوهة» 2016 دار نينوى – دمشق و»بولونيزات» 2019 – دار التكوين – دمشق، يوجد من الشعر ما لا تحمد عقباه لليوم. أما عن تباهيي بالرداءة، فحدثي ولا حرج، حدث وسميت المختارات الرابعة من أشعاري، التي نشرتها مجلة «أدب ونقد» القاهرية 2021: (أسوأ قصائد منذر مصري) إلا أني كتبت في مقدمتها محتجاً على هذا العنوان: «لكن من أنا حتى أحدد ما هي أفضل قصائدي، وكما هي أسوأها، فأنا لست سوى كاتبها!».
□ في شعرك تحاور شعراء آخرين، شعراء من ضفاف زمنيَّة متعدِّدة، بعضهم معاصرون لك في التَّاريخ والتَّجربة، وبعضهم من أزمنة تبتعد وثقافات أخرى، إلَّا أنَّ جميعهم أصدقاء لك، هل تعتقد أنَّ الشُّعراء على اختلافهم يتشاركون بطريقة ما في كتابة نص العالم؟
■ لم أفكر في هذا سابقاً، لكن نعم، من البديهي، أن الشعراء على اختلافهم يتشاركون بطريقة ما في كتابة نص العالم. ما فكرت به يوماً، أن كل ما أفعله عند كتابة الشعر هو الانضمام إلى قافلة الشعراء الموتى، بكل عظمتهم وعظمة شعرهم! تعلمين، ربما أكثر من نسبة 95% من الشعر الذي بين يدي العالم، يعود للشعراء الموتى. نعم، لا أعرف كيف، لكن أحسب سيسرني على ذلك النحو الغامض، أن أكون غداً واحداً منهم.
□ من يقرأ أعمالك يشعر بأن هناك معنى من معاني (الضحك) وفق مفهوم برغسون، هذا الضحك الذي يجابه قسوة انحلال العالم برحابة أقرب إلى ما يشبه نداء المستحيل على الهوامش البيضاء. كما يقول جورج باتاي: الكون ليس إلا انتحاراً مرحاً، هذا يتفق أيضاً مع ابتسامتك العريضة التي نألفها تحت شاربيك الكثيفين، والتي لا يمكن تخيل منذر مصري دونها، هل تعتقد أن قدرتنا على الضحك تتسع بمقدار مدى فهمنا للحياة؟ هل يخفف الضحك من وطأة العدم؟
■ لدي روح قوية. أعرف. وهذا بفضل أمي وليس بفضلي. شيء ورثته منها. وربما هذا ما يفسر كل شيء في حياتي، متابعتي كتابة الشعر لسنوات دون أي فرصة بالنشر. العودة للرسم، بعد قراري أني انتهيت منه، ولن أضيع وقتي به أبداً. البقاء في سوريا رغم كل شيء، قال لي أحد المحققين: «جميع من أمثالك غادروا البلد. لماذا أنت بقيت هنا؟» قلت إني أكتب قصائد مسهبة. صدقاً إني أحاول ما أمكنني العكس، لكن روحي تدلق وتفيض، لدرجة أنه لا يعود في وسعي، رغم كل العواقب، إلا الإسهاب والإفاضة. في إحدى قصائدي الباكرة أقول: «فمي كبير وضحكتي ساحرة» نعم كان هناك من أحبنني لمجرد أنهن رأينني أضحك في الشارع! ماذا أفعل إذا كنت محظوظاً وكانت أمي خالدية نحلوس؟
على غلاف كتابي «حقل الفخاري» 2018- دار عدوان كتبت: «أربع مشهديات ضد العدم». وفي نهاية عرضي «صحيفة الرغائب- قصائد مصورة» هناك تلك الجملة: «كل ما أفعله كي لا يكون الموت نهايتي» لكن ها أنت ستسارعين وتقولين: «الموت شيء والعدم شيء آخر!».
□ هل من الممكن أن تتحوَل كتابتك عن شعريتها في سرد الوقائع اليومية؟ هل فكرت بالخروج إلى كتابات أخرى أقرب للتأمل، للطبيعة وكائناتها، لكتابة شعر ينظر للماوراء قليلاً، أو ربما لمعايشة اللغة في غريزة الانفعالات الأولى ليتاح للحيوان الحقيقي، الذي يربض في الداخل وينتظر، أن يتكلم؟
■ نعم، أظنها تفعل، لكن ليس عن شعريتها بالذات، بل عن الشعرية عموماً. إذن هنا يمكن القول: «يسمح لي سرد وقائع حياتي اليومية، أن تتحول كتابتي إلى شعريتها الخاصة». وما تسألينه عن تفكيري بالخروج إلى كتابات أخرى، فأنا لم أكتف بالتفكير، بل فعلت. كتبت شتى أنواع الكتابات، مسرحيات، مقالات، مذكرات، خواطر، ومنها ما لا أدري ما هو مثل «الحياة العاطفية المزرية لأساطين الموسيقى» التي ختمت بها مجموعتي الشعرية الأخيرة «تجارب ناقصة» – 2020 – دار الأدهم – القاهرة. لا أدري ماذا عن الحيوان الحقيقي الذي يربض في داخلي، لكني أكاد أثق بالغرائز على نحو مطلق:
«قليلاً ما أفي بوعودي
وإن وعدت
فصدقُ غرائزي هي كل
ما أفي به»
□ في كتابك «آمال شاقة» تقول: «الأفكار تثقل رأسه والذكريات تشد به من/ ظهر قميصه/ يتمنى لو يصطحب نفسه وحيداً/ في جيبه الأيمن موسيقى خفيفة/ وأصابعه اليسرى/ خصلة عنب». هذا النص جعلني أحاول فهم تجربتك في الكتابة، إضاءة ما يسميه بلانشو (العزلة الجوهرية) التي يحتاجها الكاتب للذهاب إلى الخفة المستحيلة التي تتحول إليها الكلمات، حدثني عن عزلتك؟ عن عاداتك اليومية البسيطة والاختلاط بالآخرين؟ عن طريقتك في الكتابة؟
■ في ظني، إني شخص تشاركي. وأحاول أن أحيا على هذا الظن. أثمن بشدة دور الصداقة في حياتي، أصدقاء الحارة والمدرسة والجامعة والعسكرية والسجن، مهلاً لا أصدقاء لي في السجن، فأنا من السوريين المحظوظين، ممن فاتهم قضاء، عقد ونصف العقد من أجمل سنوات حياتهم في الزنزانات، كما العديد من أصدقائي، ومن بعدهم أصدقاء الشعر والرسم و… الأحلام! غير إنه بالتأكيد عندما أكتب وأرسم وأقرأ وأسمع موسيقى، وعندما أشاهد أفلاماً غالباً، أحتاج أن أكون وحيداً. ولقد تنبهت لتداخل هذا وتعقيده باكراً، في قصائد عديدة من «بشر وتواريخ وأمكنة» -1979- وزارة الثقافة – دمشق، قصيدة «يا محمد وابراهيم ومصطفى»- 8/5/1976 أقول:
«وإن بدا الآنَ كُل ما قُمتُ به
وكُل ما عُرِفَ عني
وكأنهُ ثَمَرةُ وَحدَتي وتفردي
خليلتي وتاجي
فيوما ما كُنتُ وحيدا في ذاتي
وذاكَ الذي أصغيتُ إليهِ طويلًا بروحي
ما كانَ مُنذُ البَدء
سِوى صُعودِكم في نُسغي
وتدفقِكم في دمي»
أما ما حاولت فهمه أيضاً، فهو الوحدة ذاتها، سببها، غايتها. في قصيدة «المقاطع الخمسة»- 25/2 – 5/1974- المقطع الثاني من المجموعة ذاتها:
«رُبما الوَحدةُ هيَ السبب
كما كانَ الآخرونَ في ما مضى
لأن أُعيدَ التفكيرَ ثلاثَ مراتٍ
على هذا النَحو
فأرتبِكُ وأتناقض
لكن الربيعَ قد حَل هنا أيضا
وكأنهَ جاءَ خِصيصا
ليُشارِكَني وَحدتي»
□ أحب التفكير أن المبدع هو الذي يفتقد معناه في هذا العالم، فتكون حالة الفقد والشعور بالمنفى هي ما تدفعه عن طريق (الكتابة، والتشكيل، والتصوير، والنحت….) لاكتشاف العالم بطريقته الخاصة، من خلال تجربتك الإبداعية في الشعر والرسم، لنقل منذ سبعينيات القرن العشرين، هل توصلت من خلال الكتابة والتشكيل لما بإمكانك الشعور به على أنه فعلا ًهوية لك؟
■ سأقول لك شيئاً غريباً بعض الشيء، الإشكال الذي وقعت به في محاولاتي فهم وتحديد هويتي هي أنني ربطتها بالمكان! أو قولي، وجدت هويتي، دون قصد مني، مرتبطة بالمكان. رغم إن الهوية بالتعريف أمر معنوي داخلي، ثقافي تراكمي متغير، بينما المكان شيء مادي خارجي، محدد ثابت. عدت مؤخراً من دبي، ولسان حالي يقول: «عدت إلى الحفرة. لا مكان آخر في العالم أعود إليه. بقية الأماكن مجرد ذهاب». ثم هناك اللغة، التي فهمتها، تبعاً لعقيدتي الناسوتية، بأنها أمي التي علمتني أول الكلمات التي نطقت بها، جدتي التي كانت تفتح، لا على التعيين، صفحة من القرآن الكريم، لا يهم ما هي، وتتلو لي ما تحفظه عن ظهر القلب من سور قصيرة وآيات، فهي لم تكن تعرف القراءة، الناس الذين يشاركوني العيش في الحيز ذاته وأتبادل معهم الكلمات والتعابير ذاتها، وأيضاً الناس الذين، أينما كانوا، يفاجئونني بأنهم يقرؤون شعري ويحفظون بعضاً من سطوري.
□ تقول في «بشر وتواريخ وأمكنة»: «إلى حيث تستلقي بهجتي على الأرض/ أريد لقدمي أن تعرفا الطريق/ وروحي أن تقطن/ ولو/ لبرهة خاطفة» منذر مصري، وأنت طفل في الثالثة والسبعين ما الذي لم يقله الشعر بعد؟
■ ما عدت طفلاً منذ زمن بعيد، وربما لم أكن طفلاً في حياتي كلها! ولا حتى مراهقاً. سمعت أمي تردد أمامي مراراً: «لم أشعر يوماً بمراهقة منذر». أتذكر هذا ولا أدري ما يعنيه. أستطيع استعادة ذلك الشعور وأنا أقف طويلاً خلف شبك نملية بيت جدتي في حارة الصباغين أراقب أقراني من أطفال الحارة يلعبون ويتعاركون. ثم إني، في النهاية، لم أتبع هذه الحكمة أعلاه. أقصد أني لم أمض إلى حيث تستلقي بهجتي على الأرض! بل بقيت حيث يرتع كدري وشقائي. لكن أيضاً حيث أجد معناي.. لم تسأليني لماذا بقيت؟
ذهبت إلى دبي، التقيت هناك ابنيّ شكيب وخالد وأصدقاء، منهم طبعاً مصطفى عنتابلي، بطل العديد من قصائدي. أقول لك: «السعادة هي أن تكون بقرب من تحب» أمضيت عشرين يوماً، وهذه أطول مدة أقضيها خارج سوريا في حياتي كلها، ما عدا الستة أشهر التي درست فيها في وارسو – بولونيا، تخللها ما يزيد عن نصف الشهر في موسكو، قبل ثلاث وأربعين سنة، وعدت. عدت وأنا أقول لنفسي، وللآخرين الذي سألوني: «عدت.. لا مكان آخر أعود إليه، بقية الأمكنة مجرد ذهاب». أما الذي لم يقله الشعر بعد، ولن يتاح لي قوله، فهناك آخرون سيكتبونه. لا مشكلة لي في هذا. إلا إني أحتفظ بحقي في (الزئير) يا لها من كلمة!
شاعرة سورية
رهيف في نثرك كرهافتك في شعركَ ، وأمثالك همّ الذين يمنحوننا القدرة على البقاء عقلاء ومجانين في الوقت نفسه .
وحين نمسي كذلك نستطيع مواجهة الحياة بقوة أكبر، وتوازن أكثر.
محمد منذر مصري .. أنت أيقونتنا.
أستاذ الجيل رغم ضياع فرص الجيل.والناكرون للمعروف أكثر من الناكرين للباطل.تحياتي لشخصك أيها المبدع الأصيل.