الشاعر العراقي علي جليل الوردي: جيل الاكتشاف والدهشة

حسب قوانين التطور، ثمة علاقة للمناخ العام في العراق: الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، النفسي، إلخ، في مغزى التطور وازدهار الرؤى المعاصرة في الحياة، الذي سيكون نواة لحركة ثقافية متنورة، لا تقارن إلا بالتجارب الرائدة في مصر، كانت الأربعينيات وما تلاها في عقدين من القرن المنصرم، فترة الاكتشاف والدهشة والتوقع، كانت البداية لجيل تأثر بالتحولات السياسية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ومنهم من تلقى معارفه في أهم العواصم الأوروبية، ليعمقوا هذا المسار، بمعنى أن المواقف المتقدمة تجاه واقع مستبد ومتخلف، كانت تتخطى الواقع الاجتماعي والثقافي، بحدود لا يمكن أن تقارن بالواقع السائد، مثال ذلك تجربة الشاعر الوطني علي جليل الوردي (1918-2009).
القلة من الوسط الأدبي – الثقافي ومن المهتمين بهذا الشأن يعرف الشاعر الوطني علي جليل الوردي، والكثرة منهم من لا يميز بينه وبين عالم الاجتماع المعروف الدكتور علي حسين الوردي، لتشابه الاسمين، والانتماء لعائلة واحدة تسكن مدينة الكاظمية منذ أوائل القرن العشرين، ومع جلّ احترامنا لشخصية علي جليل، إلا ان شهرة الثاني غطّت على الأول في العديد من المواقف، لكن تجدر الإشارة إلى أن علي جليل كرّس حياته بالكامل وعلى الدوام لمقاومة الأنظمة الديكتاتورية والقمعية، ومجابهة الاستبداد، والوقوف إلى جانب قضايا شعبه الوطنية، ثابت الموقف، شجاعاً، مترفعاً وزاهداً ونبيلاً. وبسبب ذلك، دفع الثمن غالياً على حساب أسرته وحريته، فتعرض لشتى صنوف العذاب، في الاعتقال، والفصل من الوظيفة، كان في كل العهود والأزمان مجابهاً، عاش مرارة فاشية الحكومات، لذا تبدو المقارنة بين شخصيتين (ورديتين) تحمل شيئاً من التعسف في بعض المحطات، لاسيما وأن عالم الاجتماع الوردي انصرف لبحثه الأكاديمي الذي نأى فيه عن الخوض في السياسة، شديد الحذر أن يواجه السلطات مباشرة، إنما لديه وسائله الأخرى، وأدواته المضمرة في توجيه النقد لها.
يمكن لنا القول إن الشاعر علي جليل الوردي كان أحد رواد الحداثة آنذاك في مقاييس عصره، فنحن بصدد جهود حاولت ألا تكون نسخة من الحداثة الأوروبية، ولعلني أقصد أن معنى الحداثة هنا، هو نزعة لتخطي الواقع السائد اجتماعياً، من خلال الموقف والقصيدة، من دون إهمال الجانب الجمالي والتربوي والسياسي، وذلك من خلال البحث عن أساليب أكثر إتقاناً وفناً للتعبير عن واقع الإنسان، وشعرا لا يفقد شرطه الوطني.
المتابع لتجربة الوردي، يمكنه التعرف على مغزى الأسلوب والمعالجات التي اعتمدها في شعره، وفي مواقفه الوطنية معاً، وسنتوقف عند نتيجة واحدة، هي أن الشاعر غدا مدركاً لمغزى المعاصرة من دون إهمال لموروثه التاريخي والشعبي، وحتى الديني، بل إنه امتلك من خلالها هويته الوطنية من دون تقاطع مع الحلقات المشرقة للموروث، فحداثة أي مجتمع وفق ذلك مرهونة بعقله، بعقل أولئك الذين ينتمون إليه بشكل مخلص صميمي، ومن دون ذلك تتحول الحداثة إلى تجريدات منعزلة ومضادة للقيم الاجتماعية، ما يجعلها عرضة للنقد والرفض في أحيان كثيرة، أو حين تبتعد عن الهدف لتقع في الغيبيات والمتاهات واللاجدوى. يقول ديكارت: «القانون الأساسي للعقل، أن الأحياء يتحكم فيهم الأموات، أولئك الذين تركوا فينا بصماتهم ثم رحلوا، وليس بمقدورنا مغادرتهم». علي جليل الوردي، واحد من هؤلاء، فهو من المؤسسين الأوائل لحركة أنصار السلم في العراق مطلع خمسينيات القرن الماضي، وهو عضو أول هيئة إدارية شكلت اتحاد الأدباء في العراق بعد 14 تموز/يوليو 58، وكان من روّاد التيار الوطني الديمقراطي، وأحد رموز نشر ثقافة الديمقراطية في العراق.
يعد الوردي أحد أصوات الشعر المعارض، صدر له عام 59 ديوان «طلائع الفجر»، الذي صمم غلافه الفنان خالد الجادر، وخطّ عنوانه الخطاط هاشم البغدادي، نشر قصائده منذ أوائل الأربعينيات في المجلات والصحف المحلية والعربية (الرسالة، الثقافة، الألواح، الهاتف، الغري، الفرات، الغد). كان شعره يمثل المعاناة الخصبة لمعنى الوطن، بمثابة خط الدفاع الأول عن الروح العراقية المقاومة، اكتسبت أشعاره بساطة وألفة انعكست على التكوين الشعري لتجربته، كان عبء مقاومة الاستبداد، يشكل استكمالاً لرؤية الشاعر في الحرية والوطن، وانفعالاً بالتجربة الإنسانية العميقة. رغم حماسه لدعم ثورة يوليو، لكنه وقف وسط القاعة مواجهاً الزعيم، أثناء الاحتفال بذكراها الأولى عام 1959:
لولا الضلوع الحانيات على اللظى ما كان تموز ولا من ينصروا
القصيدة جاءت احتجاجاً على خطبة للزعيم أكثر فيها من مفردة (إنني، إنني، إنني)، التي غالباً ما يرددها في خطبه. كرس الوردي حياته وشعره لقضية السلام ومعارضة الحروب منذ سنوات عمره المبكرة، كان صوته متحدياً في وثبة كانون 48، بقصيدة رثاء لجعفر الجواهري في جامع الحيدرخانة، كما شكلت قضية حقوق المرأة وحريتها، أحد أبرز محاور شعره على امتداد حياته، ولا يخلو شعره من لمحات عشق وغزل وحب، كان يطلق عليه أبناء جيله (شاعر الشباب)، فهو حاضر حيث يكون في ساحات الاحتجاج، نصيراً للفقراء، يفضح اللصوص والقتلة:
سلي بغداد من شهر السلاحا بوجه بنيك أي دم أباحا
تنوعت اهتمامات الشاعر الوردي، واختصاصاته، فهو قد تعلم مهنة الآباء (الصياغة)، ودرس على يد شيوخ اللغة والفقه، البلاغة والشعر وعلوم القرآن والحديث، ودرس ألفية ابن مالك، والأجرومية، ثم أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة، وتخرج فيه عام 1942، ونال شهادة بكالوريوس قانون عام 1949 وامتهن المحاماة، وشغل وظيفة مهمة في هيئة التفتيش العامة، وكان مثالاً للنزاهة والصرامة في العمل. لعل الوردي أكثر الشعراء ثباتاً في الموقف، لم يساوم، ولم يهادن، كان قد حسم اختياره في هذا الموقف ولم يتراجع عنه، في أسوأ الحالات التي واجهها، حتى إن اقتطعوا ثلمة من قلبه، بقتل فلذة كبده، ولده (سعد). فبقيت قصائده من بعده ترسم للوطنية صوراً لن ينالها الفناء، صوراً استلهم مادتها الدافقة من الحياة والأمل.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية